تنبيهات 
الأول : 
قوله- صلى الله عليه وسلم- : « صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام  » . 
اختلف في تأويل هذا الحديث ، فقيل : إن الصلاة في مسجده- صلى الله عليه وسلم- أفضل من الصلاة في المسجد الحرام  بدون ألف صلاة . 
ونقل  أبو عمر  عن جماعة من أهل الأمر : أن معناه أن الصلاة في المسجد الحرام  أفضل من الصلاة في مسجد المدينة ،  ثم أيده بما أخرجه من حديث  ابن عمر  مرفوعا «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام؛ فإنه أفضل فيه بمائة صلاة»  . 
الثاني : 
قوله- صلى الله عليه وسلم- : « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد » . 
قيل : هو نفي بمعنى النهي . 
وقيل : لمجرد الإخبار ، لا نهي ولا دلالة فيه على التحريم؛ إذ النفي لا يقتضي النهي مطلقا ، وعلى تقدير أنه يقتضي النهي ، فإنما يقتضي النهي فيما وقع عليه النفي ، والنفي ها هنا ليس لنفي الحقيقة ، وإنما هو لنفي مقصود من مقاصدها ، ولا يتعين أن يكون الجواز المطلق ، جاز أن يكون : لا تشد الرحال وجوبا أو ندبا أو طاعة مسنونة بخصوصيتها لا بنوعها ولا بحسنها ، وتعين أحد المحتملات يحتاج إلى دليل ، وبتقدير أن يكون بمعنى النهي ، فلا نسلم أن النهي في مثل ذلك يقتضي التحريم ، والأمر يقتضي الوجوب ، وإطلاق أئمة الأصول أن النهي يقتضي التحريم ، والأمر يقتضي الوجوب محمول على الأمر بصيغة «افعل» والنهي بصيغة «لا تفعل» إذ هو الذي يصح فيه دعوى الحقيقة . 
وأما ما كان موضوعا حقيقة بغير الأمر والنهي ، ويفيد معنى أحدهما كالخبر بمعنى الأمر ، والنفي بمعنى النهي ، فلا يدعي فيه أنه حقيقة في وجوب ولا تحريم؛ لأنه مستعمل في غير موضوعه إذا أريد الأمر والنهي ، ودعوى كونه حقيقة في إيجاب أو تحريم وهو موضوع لغيرهما مكابرة ، وهذا موضع يغلط فيه كثير من الفقهاء ، ويعبرون بلفظ أئمة الأصول ويدخلون فيه كلما  [ ص: 353 ] 
أفاد نهيا أو أمرا ، والمحقق يعرف المراد ويضع كل شيء في موضعه . 
ذكر ذلك كله شيخ الإسلام كمال الدين بن الزملكاني  في كتاب «العمل المقبول في زيارة الرسول» قال النووي   : معناه الأفضلية في شد الرحال إلى مسجد غير هذه الثلاثة ، ونقله عن الجمهور . 
وقال العراقي   : من أحسن محامل الحديث أن المراد منه حكم المساجد فقط ، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من مساجد غير هذه الثلاثة . 
وأما فضل غير المساجد من الرحلة في طلب العلم وزيارة الصالحين والإخوان والتجارة والتنزه  ونحو ذلك فليس داخلا فيه . 
وقد ورد ذلك مصرحا في رواية أحمد . 
ولفظه : لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام  والمسجد الأقصى  ومسجدي هذا . 
وقال الشيخ تقي الدين السبكي :  ليس في الأرض بقعة لها فضل ثوابها حتى تشد إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة ، ولا شك أن بقاع المساجد الثلاثة وموضع قبره- صلى الله عليه وسلم- هي أفضل بقاع الأرض ،  وموضع قبره- صلى الله عليه وسلم- ومسجد مكة والمدينة أفضل من المسجد الأقصى ، واختلف أيهما أفضل : مسجد مكة أو مسجد المدينة ؟ 
الثالث : قال  القاضي عياض  بعد حكاية الخلاف : ولا خلاف أن موضع قبره- صلى الله عليه وسلم- أفضل بقاع الأرض . انتهى . 
ولا ريب أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- أفضل المخلوقات ،  فليس في المخلوقات على الله تعالى أكرم منه ، لا في العالم العلوي ولا في العالم السفلي كما تقدم في الباب الأول من الخصائص . قال بعضهم : كيف يمكن انفكاك المؤمن المعظم للنبي- صلى الله عليه وسلم- المعتقد شرف تلك البقعة أن يشد الرحال إليها ويدخل المسجد ويصلي فيه ولا يصلي إلى الروضة الشريفة التي في الحجرة ؟ وفي الحديث أنها روضة من رياض الجنة ، وكيف يصلي إلى الروضة والقبر ويعلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسمع كلامه إذا سلم عليه ، ويرد عليه السلام ، ويسعه أن لا يقصد الحجرة الشريفة والقبر ، ويسلم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن وقع هذا لأحد لا يكون قلبه معمورا بحب النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن تداركه الله تعالى برحمته وجد من نفسه ذلك ، وكذلك لو قصد زيارة قبره- صلى الله عليه وسلم- لم ينفك قصده عن قصد المسجد ، وهذا شأن الزوار . 
الرابع : قال الإمام  أبو عمر بن عبد البر   : بعد أن ذكر حديث الصحيحين أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يأتي مسجد قباء  راكبا وماشيا وليس في إتيانه- صلى الله عليه وسلم- مسجد قباء  ما يعارض قوله- صلى الله عليه وسلم- : «لا تعمل المطي» . 
لأن قوله ذلك معناه عند العلماء فيمن نذر على نفسه صلاة  [ ص: 354 ] في أحد المساجد الثلاثة  أنه يلزمه إتيانها دون غيرها ، وأما إتيان قباء وغيرها من مواضع الرباط فلا بأس بإتيانها بدليل حديث قباء هذا . 
وقال العلامة ابن جملة   : وهذا الذي ذكره هو الحق الذي لا محيد عنه؛ ولهذا تجد الأئمة من الفقهاء والمحدثين يذكرون الحديث في باب النذر ، والسفر للجهاد ، وتعلم العلم الواجب ، وبر الوالدين ، وزيارة الإخوان ، والتفكير في آثار صنع الله كله مطلوب للشارع وجوبا واستحبابا ، والسفر للتجارة والأعراض الدنيوية جائز ، وكله خارج من هذا الحديث ، فلم يبق إلا شد الرحل للمعصية ، وحينئذ هو الممنوع ، ولا يختص المنع بشد الرحل باستحسان الله ، أيكون السفر لزيارة النبي- صلى الله عليه وسلم- من هذا القسم ، لقد اجترأ على الله وعلى رسوله من قال هذا ، وهو كلام يدور حول الاستهانة وسوء الأدب في إطلاقه ما يقتضي كفر قائله ، نعوذ بالله من الخذلان ، وكذلك ليس قوله- صلى الله عليه وسلم- «لا تتخذوا قبري عيدا وتجعلوا بيوتكم صورا» . ما يعارض ما تقدم؛ لأن سياقه يقتضي دفع توهم من توهم أن الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- لا تكون مؤثرة إلا عند قبره ، فيفوت بسبب ذلك ثواب الصلاة عليه من بعد؛ ولهذا قال- صلى الله عليه وسلم- : «صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم»  . 
ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز السفر وشد الرحل ، لغرض دنيوي  كالتجارة ، فإذا جاز ذلك فهذا أولى؛ لأنه من أعظم الأغراض الأخروية؛ فإنه في أصله من الآخرة لا سيما في هذا الموضع ، ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز السفر وشده .  [ ص: 355 ] 
				
						
						
