المسألة الثالثة : في تحقيق معناه : اعلموا أفادكم الله العرفان أنا قد أحكمنا هذه المسألة في كتاب ملجئة المتفقهين ; ونحن الآن نشير إلى ما يغني في ذلك الغرض ، ويشرف بكم على مقصود الفتوى المفترض ، فنقول : إن الحين ظرف زمان ، وهو مبهم لا تخصيص فيه ، ولا تعيين في المفسر له ، وهذا مقرر لغة ، مجمع عليه من علماء اللسان ، وإنما يفسره ما يقترن به ، وهو يحتمل ساعة لحظية ، ويحتمل يوم الساعة الأبدية ، ويحتمل حال العدم لقوله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر    } . ولأجل إبهامه علق الوعيد به ، ليغلب الخوف ، لاستغراق مدة العذاب نهاية الأبد فيه ، فيكف عن الذنب ، أو يرجو لاقتضاء الوعيد أقل مدة احتماله ; فيغلب الرجاء ، ولا يقع اليأس عن المغفرة الذي هو أشد من الذنب ، ثم يفعل الله ما يشاء . وتعلق من قال : إن الحين غدوة وعشية بقوله تعالى : { فسبحان الله حين تمسون  [ ص: 92 ] وحين تصبحون    } ، ومن قال : إنه ثلاثة أيام نزع بقوله تعالى في قصة ثمود    : { وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين    } . وتعلق  ابن المسيب  ببقاء الثمر في النخل . 
واستدل من قال : إنه ستة أشهر بأنه مدة الثمر من حين الابتداء إلى حين الجني    . وتعلق من قال : إنه يوم القيامة بقوله تعالى : { حتى حين    } . وتعلق من قال : إنه سبع سنين أو ثلاث عشرة سنة بأخبار إسرائيلية وردت في مدة بقاء يوسف  في السجن باختلاف في الرواية عنهم ومن هذه الأقوال صحيح وفاسد ، وقوي وضعيف ; وأظهرها اللحظة ; لأنه اللغة والمجهول ; لأنه لا يعلم مقداره على التعيين ، والشهران والستة أشهر والسنة [ لأنها ] كلها تخرج من ذكر الحين في ذكر النخلة في القرآن والسنة . 
وروى  ابن وهب  ، وابن القاسم  عن  مالك    : من نذر أن يصوم حينا  فليصم سنة . قال الله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها    } . وروى أشهب  ، عن  مالك  قال : الحين الذي يعرف من الثمرة إلى الثمرة قال الله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها    } . ومن الحين الذي لا يعرف قوله : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر    } . 
وقال أشهب  في رواية أخرى : الحين الذي يعرف قوله : { تؤتي أكلها كل حين    } فهذا سنة ، والحين الذي لا يعرف قوله : { ومتاعا إلى حين    } ، فهذا حين لا يعرف . وقد قال  سعيد بن المسيب    : إن الحين في هذه الآية من حين تطلع الثمرة إلى أن  [ ص: 93 ] ترطب ، ومن حين ترطب إلى أن تطلع . والحين ستة أشهر ، ثم قال : يقول الله : { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها    } . ومن الحين المجهول قوله : { ولتعلمن نبأه بعد حين    } . 
قال القاضي    : الذي اختاره  مالك  في الصحيح سنة ، واختار  أبو حنيفة  ستة أشهر ، وتباين العلماء والأصحاب من كل باب على حال احتمال اللفظ . وأصل المسألة الذي تدور عليه أن الحين المجهول لا يتعلق به حكم ، والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ، ويرتبط به التكليف ، وأكثر المعلوم سنة .  ومالك  يرى في الأيمان والأحكام أعم الأسماء والأزمنة ، وأكثرها استظهارا .  والشافعي  يرى الأقل ; لأنه المتعين .  وأبو حنيفة  توسط ، فقال : ستة أشهر . ولا معنى لقوله ; لأن المقدرات عنده لا تثبت قياسا ، وليس فيه نص عن صاحب الشريعة ; وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة ، وهو أمر يختلف باختلاف الأمثلة ; ونحن نضرب في ذلك الأمثلة ما نبين به المقصود ، وذلك ثلاثة أمثلة : 
المثال الأول : فنقول : إذا نذر أن يصلي حينا  فيحتمل ركعة عند  الشافعي    ; لأنه أقل النافلة ، وركعتين عند المالكية ; لأنهما أقل النافلة فيتقدر الزمان بقدر الفعل . 
المثال الثاني : إذا نذر أن يصوم حينا فيحتمل يوما لا أقل منه ; لأنه معيار الصوم [ الشرعي ] ; إذ هي عبادة تتقدر بالزمان ، لا بالأفعال ; لأنه ترك فلا يحده إلا الوقت ، بخلاف الفعل ، فإنه يحد نفسه . ويحتمل الدهر ، ويحتمل سنة ، فرأى  الشافعي  يوما أخذا بالأقل ، وألزم  مالك  الدهر ; لأنه الأكثر ، وتركه  مالك  للعلة التي أشار إليها من أنه مجهول ، ويلزمه أن يقضي به ، وإن كان مجهولا ; لأنه عنده أنه لو قال : علي صوم الدهر  لزمه وتوسط ، فقال سنة ، فإنه عدل بين الأقل والأكثر ، وبين في كتاب  [ ص: 94 ] الله في ذكر النخلة ، ويعارضه أن ستة أشهر بين أيضا ، ولكنه أخذ بالأكثر في ذكر النخلة . 
المثال الثالث : إذا حلف ألا يدخل الدار حينا    : وهي متركبة على ما قبلها في تحديد الحين ، لكنه يلحق الصلاة في احتمال أقل من يوم ، ويحتمل سائر الوجوه . والمعول عند علمائنا على العرف في ذلك إن لم تكن نية ولا سبب ولا بساط حال ; فيركب البر والحنث على النية أولا ، وعلى السبب ثانيا ، وعلى البساط ثالثا ، وعلى اللغة رابعا ، وعلى العرف خامسا ، وهو أولى من اللغة عندنا ; وسيأتي ذلك محققا في سورة " ص " وغيرها إن شاء الله . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					