المسألة الثالثة : قد كانت الخلقة مستمرة ذكرا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى ، فأتى به فريض العرب  ومعمرها عامر بن الظرب  ، فلم يدر ما يقول فيه ، وأرجأهم عنه ، فلما جن عليه الليل تنكر موضعه ، وأقض عليه مضجعه ، وجعل يتقلى ويتقلب . وتجيء به الأفكار وتذهب إلى أن أنكرت الأمة حالته ، فقالت : ما بك ؟ قال لها : سهرت لأمر قصدت فيه فلم أدر ما أقول فيه . فقالت له : ما هو ؟ قال لها : رجل له ذكر وفرج ، كيف تكون حالته في الميراث  ؟ قالت له الأمة : ورثه من حيث يبول ، فعقلها ، وأصبح ، فعرضها لهم وأمضاها عليهم ، فانقلبوا بها راضين . وجاء الإسلام على ذلك فلم تنزل إلا في عهد  علي بن أبي طالب  ، فقضى فيها بما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . 
وقد روى الفرضيون عن  الكلبي  عن أبي صالح  عن  ابن عباس  عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه سئل عن مولود له قبل وذكر من أين يورث ؟ قال : من حيث يبول   } . 
وروي أنه أتى بخنثى من الأنصار  ، فقال : { ورثوه من أول ما يبول   } . 
قال القاضي : قال لنا شيخنا أبو عبد الله الشقاق  فرضي الإسلام : إن بال منهما جميعا ورث بالذي يسبق منه البول ، وكذلك رواه  محمد بن الحنفية  عن  علي  ، ونحوه ، عن  [ ص: 82 ]  ابن عباس  وبه قال  ابن المسيب  ،  وأبو حنيفة  ،  وأبو يوسف  ،  ومحمد  ، وحكاه  المزني  عن  الشافعي    . وقال قوم : لا دلالة في البول ، فإن خرج البول منهما جميعا قال  أبو يوسف    : يحكم بالأكثر . 
وأنكره  أبو حنيفة  ، وقال : أيكيله ، ولم يجعل أصحاب  الشافعي  للكثرة حكما . 
وحكي عن  علي  والحسن    : تعد أضلاعه ، فإن المرأة تزيد على الرجل بضلع واحد ، ولو صح هذا لما أشكل حاله . انتهى كلام شيخنا أبي عبد الله    . 
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي    : لا أحفظ عن  مالك  في الخنثى شيئا . وحكى عنه أنه جعله ذكرا ، وحكى عنه أنه جعل له نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى ، وليس بثابت عنه . 
قال أبو عبد الله الشقاق    : ومما يستدل به على حاله : الحيض ، والحبل ، وإنزال المني من الذكر ، واللحية ، والثديان ; ولا يقطع بذلك . وقد قيل : إذا بلغ زال الإشكال . 
قال القاضي : وروي عن علمائنا فيه قال  مطرف  ، وابن الماجشون  ، وابن عبد الحكم  ،  وابن وهب  ، وابن نافع  ، وأصبغ    : يعتبر مباله . فإن بال منهما فالأسبق ، وإن خرج منهما فالأكثر ، ولولا ما قال العلماء هذا لقلت : إنه إن بال من ثقب إنه يعتبر به هو الآخر ; لأن الولد لا يخرج من المبال بحال ، وإنما ثقب البول غير مخرج الولد . ويتبين ذلك في الأنثى ، وقالوا على مخرج البول ينبني نكاحه وميراثه وشهادته وإحرامه في حجه ، وجميع أمره . 
وإن كان له ثدي ولحية أو لم يكن ورث نصف ميراث رجل ، ولا يجوز له حينئذ نكاح ، ويكون أمره في شهادته وصلاته وإحرامه على أحوط الأمرين . 
والذي نقول : إنه يستدل فيه بالحبل والحيض . 
حالة ثالثة كحالة أولى لا بد منها ، وهي أنه إذا أشكل أمره فطلب النكاح من ذكره ، وطلب النكاح من فرجه فإنه أمر لم يتكلم فيه علماؤنا ، وهو من النوع الذي يقال فيه دعه حتى يقع ، ولأجل هذه الإشكالات في الأحكام والتعارض في الإلزام والالتزام أنكره  [ ص: 83 ] قوم من رءوس العوام ، فقالوا : إنه لا خنثى ; فإن الله تعالى قسم الخلق إلى ذكر وأنثى . 
قلنا : هذا جهل باللغة وغباوة عن مقطع الفصاحة ، وقصور عن معرفة سعة القدرة ; أما قدرة الله تعالى فإنه واسع عليم . 
وأما ظاهر القرآن فلا ينفي وجود الخنثى ; لأن الله تعالى قال : { لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء    } ، فهذا عموم فلا يجوز تخصيصه لأن القدرة تقتضيه . وأما قوله : { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير    } فهذا إخبار عن الغالب في الموجودات ، وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول ; والوجود يشهد له ، والعيان يكذب منكره . 
وقد كان يقرأ معنا برباط  أبي سعيد  علي الإمام الشهيد من بلاد المغرب  خنثى [ ليس ] له لحية ، وله ثديان ، وعنده جارية ، فربك أعلم به ، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله ، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله . المسألة الرابعة : في توريثه ، وهو مذكور على التمام في كتب المسائل ، فلينظر هنالك . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					