المسألة الرابعة عشرة : قوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم    } 
قد تقدم تحقيقه ، ومثل الشيء حقيقته وهو شبهه في الخلقة الظاهرة ، ويكون مثله في معنى ، وهو مجازه ; فإذا أطلق المثل اقتضى بظاهره حمله على الشبه الصوري دون المعنى ، لوجوب الابتداء بالحقيقة في مطلق الألفاظ قبل المجاز حتى يقتضي الدليل ما يقضي فيه من صرفه عن حقيقته إلى مجازه ; فالواجب هو المثل الخلقي ; وبه قال  الشافعي    . 
وقال  أبو حنيفة    : إنما يعتبر بالمثل . في القيمة دون الخلقة    .  [ ص: 181 ] والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الآية المتقدمة ، وذلك من أربعة أوجه : 
الأول : ما قدمناه من أن المثل حقيقة هو المثل من طريق الخلقة . 
الثاني : أنه قال : { من النعم    } فبين جنس المثل ، ولا اعتبار عند المخالف بالنعم بحال . 
الثالث : أنه قال : { يحكم به ذوا عدل منكم    } وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم ; لأنه لم يتقدم ذكر سواه يرجع الضمير إليه . والقيمة التي يزعم المخالف أنه يرجع الضمير إليها لم يتقدم لها ذكر . 
الرابع : أنه قال : { هديا بالغ الكعبة    } والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم ; فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا . 
فإن قيل : القيمة مثل شرعي من طريق المعنى في الحيوان وغيره ، حتى يقال القيمة مثل للعبد ، ولا يجعل في الإتلاف مثله عبدا يغرم فيه ، وأوجبنا في ذوات الأمثال في المتلفات المثل خلقة ; لأن الطعام كالطعام والدهن كالدهن ; ولم يوجب في العبد عبد مثله ; لأن الخلقة لم تقم بالمثلية ، فكيف أن يجعل البدنة مثلا للنعامة . قلنا : هذا مزلق ينبغي أن يتثبت فيه قدم الناظر قليلا ، ولا يطيش حلمه ، فاسمع ما نقول ، فلا خفاء بواضح الدليل الذي قدمناه من كتاب الله ، وليس يعارضه الآن ما موهوا به من أن النعامة لا تماثلها البدنة ; فإن الصحابة قضوا بها فيها ، وهم بكتاب الله أفهم ، وبالمثل من طريق الخلقة والمعنى أعلم ، فلا يتوهم متوهم سواه إلا وهم ، ولا يتهمهم في قصور النظر ، إلا من ليس بمسلم . 
والدقيقة فيه أن مراعاة ظاهر القرآن مع شبه واحد من طريق الخلقة أولى من إسقاط ظاهر القرآن مع التوفر على مراعاة الشبه المعنوي ; هذا ما لا يستقل بدركه في مطرح النظر إلا نافذ البصيرة والبصر . 
فإن قيل : يحتمل أنهم قوموا النعامة بدراهم ، ثم قوموا البدنة بدراهم . قلنا : هذا جهل من وجهين : أحدهما : أن سرد الروايات على ما سنورده يبطل هذا فإنه ليس فيه شيء منه .  [ ص: 182 ] الثاني : أن قيمة النعامة لم تساو قط قيمة البدنة في عصر من الأعصار ، لا متقدم ولا متأخر ، علم ذلك ضرورة وعادة ، فلا ينطق بمثل هذا إلا متساخف بالنظر . وإنما سقطت المثلية في الاعتداء على الحيوان من باب المزابنة ، وقد بيناه في كتب الفقه . 
فإن قيل : لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا ، في النعامة بدنة ، وفي الحمار بقرة ، وفي الظبي شاة لما أوقفه على عدلين يحكمان به ; لأن ذلك قد علم ، فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر ، وإنما يفتقر إلى العدول والحكم ما يشكل الحال فيه ويضطرب وجه النظر عليه . والجواب : أن اعتبار الحكمين إنما وجب في حال المصيد من صغر وكبر ، وما له جنس مما لا جنس له ، وليعتبر ما وقع التنصيص عليه من الصحابة ، فيلحق به ما لم يقع بينهم نص عليه . 
فإن قيل : فقد قال : { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما    } ، فشرك بينهما ب " أو " فصار تقدير الكلام : فجزاء مثل ما قتل من النعم ، أو من الطعام ، أو من الصيام ، وتقدير المثلية في الطعام والصيام بالمعنى ، وكذلك في المثل الأول . قلنا : هذا جهل أو تجاهل ; فإن قوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم    } ظاهر كما قدمنا في مثل الخلقة ، وما عداه يمتنع فيه مثلية الخلقة حسا ; فرجع إلى مثلية المعنى حكما ، وليس إذا عدم المعنى المطلوب في موضع ويرجع إلى بدله يلزم أن يرجع إلى بدله مع وجوده . تكملة : ومن يعجب فعجب من قراءة المكي والمدني والبصري والشامي : فجزاء مثل بالإضافة ; وهذا يقتضي الغيرية بين المضاف والمضاف إليه ، وأن يكون الجزاء لمثل  [ ص: 183 ] المقتول لا المقتول ، ومن قراءة الكوفيين    : فجزاء مثل على الوصف ، وذلك يقتضي أن يكون الجزاء هو المثل . 
ويقول أهل الكوفة  من الفقهاء : إن الجزاء غير المثل . ويقول المدنيون والمكيون والشاميون من الفقهاء : إن الجزاء هو المثل ; فيبني كل واحد منهم مذهبه على خلاف مقتضى ظاهر قراءة قراء بلده . وقد قال لنا القاضي أبو الحسن القرافي الزاهد    : إن ابن معقل  الكاتب أخبره عن أبي علي النحوي  أنه قال : إنما يجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول . والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول . قال : ومن أضاف الجزاء إلى المثل فإنه يخرج على تقدير إقحام المثل ; وذلك كقولهم : أنا أكرم مثلك ; أي أكرمك . 
قال القاضي أبو بكر بن العربي    : وذلك سائغ في اللغة ، وعليه يخرج أحد التأويلات في قوله تعالى : { ليس كمثله شيء    } . وقد حققناه في كتاب المشكلين . المسألة الخامسة عشرة : في سرد الآثار عن السلف  في الباب : وفي ذلك آثار كثيرة ، لبابها سبعة أقوال : الأول : قال السدي    : " في النعامة والحمار بدنة ، وفي بقرة الوحش أو الإبل أو الأروى بقرة ، وفي الغزال والأرنب شاة ، وفي الضب واليربوع سخلة قد أكلت العشب ، وشربت الماء ، ففرق بين صغير الصيد وكبيره . 
الثاني : قال  عطاء    : " صغير الصيد وكبيره سواء " لقوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم    } ، مطلقا ، ولا يفصل بين صغير وكبير . 
الثالث : قال  ابن عباس    : " تطلب صفة الصيد ، فإن لم توجد قوم بالدراهم ، ثم قومت الدراهم بالحنطة ، ثم صام مكان كل نصف صاع يوما " . 
الرابع : قال  ابن عباس    : " تذبح عن الظبي شاة ; فإن لم يجد أطعم ستة مساكين . فإن لم يجد صام ستة أيام " .  [ ص: 184 ] 
الخامس : قال الضحاك    : " المثل ما كان له قرن كوعل وأيل فداه ببقرة ، وما لم يكن له قرن كالنعامة والحمار ففيه بدنة ، وما كان من ظبي فمن النعم مثله ، وفي الأرنب ثنية ، وما كان من يربوع ففيه جمل صغير . فإن أصاب فرخ صيد أو بيضه تصدق بثمنه ، أو صام مكان كل نصف صاع يوما " . 
السادس : قال  النخعي    : " يقوم الصيد المقتول بقيمته من الدراهم ، ثم يشتري القاتل بقيمته فداء من النعم ، ثم يهديه إلى الكعبة    " . 
السابع : قال  ابن وهب    : قال  مالك    : " أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد  فيحكم عليه فيه أنه يقوم الصيد الذي أصاب ، فينظر كم ثمنه من الطعام ; فيطعم لكل مسكين مدا ، أو يصوم مكان كل مد يوما " . وقال ابن القاسم  عنه : " إن قوم الصيد دراهم ثم قومها طعاما أجزأه " . والصواب الأول . وقال  عبد الله بن عبد الحكم  مثله قال عنه : وهو في هذه الثلاثة بالخيار أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا ، وبه قال  عطاء  ، وجمهور الفقهاء . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					