قوله تعالى : واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما 
 فيه سبع مسائل : 
الأولى : قوله تعالى : واللذان " اللذان " تثنية الذي ، وكان القياس أن يقال : اللذيان كرحيان ومصطفيان وشجيان . قال  سيبويه    : حذفت الياء ليفرق بين الأسماء المتمكنة والأسماء المبهمات . وقال أبو علي    : حذفت الياء تخفيفا ، إذ قد أمن اللبس في اللذان ؛ لأن النون لا تنحذف ، ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم ؛ فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين . وقرأ ابن كثير    " اللذان " بتشديد النون ؛ وهي لغة قريش  ؛ وعلته أنه جعل التشديد عوضا من ألف " ذا " على ما يأتي بيانه في سورة " القصص " عند قوله تعالى : فذانك برهانان    . وفيها لغة أخرى " اللذا " بحذف النون . هذا قول الكوفيين . وقال البصريون : إنما حذفت النون لطول الاسم بالصلة . وكذلك قرأ " هذان " و " فذانك برهانان " بالتشديد فيهما . والباقون بالتخفيف . وشدد أبو عمرو    " فذانك برهانان " وحدها . و " اللذان " رفع بالابتداء . قال  سيبويه    : المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها ، أي الفاحشة " منكم " . ودخلت الفاء في فآذوهما لأن في الكلام معنى الأمر ؛ لأنه لما وصل الذي بالفعل تمكن فيه معنى الشرط ؛ إذ لا يقع عليه شيء بعينه ، فلما تمكن الشرط والإبهام فيه جرى مجرى الشرط فدخلت الفاء ، ولم يعمل فيه ما قبله من الإضمار كما لا يعمل في الشرط ما قبله ؛ فلما لم يحسن إضمار الفعل قبلهما لينصبا رفعا بالابتداء ؛ وهذا اختيار  سيبويه    . ويجوز النصب على تقدير إضمار فعل ، وهو الاختيار إذا كان في الكلام معنى الأمر والنهي نحو قولك : اللذين عندك فأكرمهما . 
الثانية : قوله تعالى : فآذوهما قال قتادة   والسدي    : معناه التوبيخ والتعيير . وقالت فرقة : هو السب والجفاء دون تعيير . ابن عباس    : النيل باللسان والضرب بالنعال   . قال النحاس    : وزعم قوم أنه منسوخ . 
قلت : رواه ابن أبي نجيح  عن مجاهد  قال : واللاتي يأتين الفاحشة  و اللذان يأتيانها  كان في أول الأمر فنسختهما الآية التي في " النور " . قاله   [ ص: 77 ] النحاس    : وقيل وهو أولى : إنه ليس بمنسوخ ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما : فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل . 
الثالثة : واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى : واللاتي وقوله : واللذان فقال مجاهد  وغيره : الآية الأولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات ، والآية الثانية في الرجال خاصة . وبين لفظ التثنية صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن ؛ فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى    . وهذا قول يقتضيه اللفظ ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة . ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى : من نسائكم وفي الثانية منكم ؛ واختاره النحاس  ورواه عن ابن عباس    . وقال  السدي  وقتادة  وغيرهما : الأولى في النساء المحصنات . يريد : ودخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى ، والثانية في الرجل والمرأة البكرين . قال ابن عطية    : ومعنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه . وقد رجحه الطبري  ، وأباه النحاس  وقال : تغليب المؤنث على المذكر بعيد ؛ لأنه لا يخرج الشيء إلى المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة . وقيل : كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل ؛ فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ثم جمعا في الإيذاء . قال قتادة    : كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعا ؛ وهذا لأن الرجل يحتاج إلى السعي والاكتساب . 
الرابعة : واختلف العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة  الذي هو بيان لأحكام الزناة على ما بيناه ؛ فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب  لا اختلاف عنه في ذلك ، وأنه جلد شراحة الهمدانية  مائة ورجمها بعد ذلك ، وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بهذا القول  الحسن البصري   والحسن بن صالح بن حي  وإسحاق    . وقال جماعة من العلماء : بل على الثيب الرجم بلا جلد    . وهذا يروى عن عمر  وهو قول الزهري  والنخعي   ومالك   والثوري   والأوزاعي   والشافعي  وأصحاب الرأي وأحمد   وأبي ثور  ؛ متمسكين بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا  والغامدية  ولم يجلدهما ، وبقوله عليه السلام لأنيس    : اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يذكر الجلد ؛ فلو كان مشروعا لما سكت عنه . قيل لهم : إنما سكت عنه ؛ لأنه ثابت بكتاب الله تعالى ، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن ؛ لأن قوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة  يعم جميع الزناة . والله أعلم . ويبين هذا فعل علي بأخذه عن الخلفاء رضي الله عنهم ولم ينكر عليه فقيل له : عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ . وهذا واضح . 
الخامسة : واختلفوا في نفي البكر مع الجلد  ؛ فالذي عليه الجمهور أنه ينفى مع الجلد ؛   [ ص: 78 ] قاله الخلفاء الراشدون : أبو بكر  وعمر  وعثمان  وعلي  ، وهو قول ابن عمر  رضوان الله عليهم أجمعين ، وبه قال عطاء   وطاوس  وسفيان   ومالك   وابن أبي ليلى   والشافعي  وأحمد  وإسحاق   وأبو ثور    . وقال بتركه  حماد بن أبي سليمان   وأبو حنيفة  ومحمد بن الحسن    . والحجة للجمهور حديث عبادة  المذكور ، وحديث  أبي هريرة  وزيد بن خالد  ، حديث العسيف  وفيه : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فرد عليك وجلد ابنه مائة وغربه عاما   . أخرجه الأئمة . احتج من لم ير نفيه بحديث  أبي هريرة  في الأمة ، ذكر فيه الجلد دون النفي . وذكر عبد الرزاق  عن معمر  عن الزهري  عن  سعيد بن المسيب  قال   : غرب عمر  ربيعة بن أبي أمية بن خلف  في الخمر إلى خيبر  فلحق بهرقل  فتنصر ؛ فقال عمر    : لا أغرب مسلما بعد هذا   . قالوا : ولو كان التغريب حدا لله تعالى ما تركه عمر  بعد . ثم إن النص الذي في الكتاب إنما هو الجلد ، والزيادة على النص نسخ ؛ فيلزم عليه نسخ القاطع بخبر الواحد . 
والجواب : أما حديث  أبي هريرة  فإنما هو في الإماء لا في الأحرار . وقد صح عن عبد الله بن عمر  أنه ضرب أمته في الزنا ونفاها   . وأما حديث عمر  وقوله : لا أغرب بعده مسلما ، فيعني في الخمر   - والله أعلم - لما رواه نافع  عن ابن عمر  أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب ، وأن أبا بكر  ضرب وغرب ، وأن عمر  ضرب وغرب   . أخرجه الترمذي  في جامعه ،  والنسائي  في سننه عن أبي كريب  محمد بن العلاء الهمداني  عن عبد الله بن إدريس  عن عبيد الله بن عمر  عن نافع    . قال  الدارقطني    : تفرد به عبد الله بن إدريس  ولم يسنده عنه أحد من الثقات غير أبي كريب  ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النفي فلا كلام لأحد معه ، ومن خالفته السنة خاصمته . وبالله التوفيق . 
وأما قولهم : الزيادة على النص نسخ ، فليس بمسلم ، بل زيادة حكم آخر مع الأصل . 
ثم هو قد زاد الوضوء بالنبيذ بخبر لم يصح على الماء ، واشترط الفقر في القربى ؛ إلى غير ذلك مما ليس منصوصا عليه في القرآن . وقد مضى هذا المعنى في البقرة ويأتي . 
السادسة : القائلون بالتغريب لم يختلفوا في تغريب الذكر الحر ، واختلفوا في تغريب العبد والأمة  ؛ فممن رأى التغريب فيهما ابن عمر  جلد مملوكة له في الزنا ونفاها إلى فدك وبه قال  الشافعي   وأبو ثور   والثوري   والطبري  وداود    . واختلف قول  الشافعي  في نفي العبد  ، فمرة قال : أستخير الله في نفي العبد ، ومرة قال : ينفى نصف سنة ، ومرة قال : ينفى سنة إلى غير بلده ؛ وبه قال الطبري    . 
واختلف أيضا قوله في نفي الأمة  على قولين . وقال مالك    : ينفى   [ ص: 79 ] الرجل ولا تنفى المرأة ولا العبد ، ومن نفي حبس في الموضع الذي ينفى إليه . وينفى من مصر  إلى الحجاز  وشغب  وأسوان  ونحوها ، ومن المدينة  إلى خيبر  وفدك  ؛ وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز    . ونفى علي  من الكوفة  إلى البصرة    . وقال  الشافعي    : أقل ذلك يوم وليلة . قال  ابن العربي    : كان أصل النفي أن بني إسماعيل   أجمع رأيهم على أن من أحدث حدثا في الحرم غرب منه ، فصارت سنة فيهم يدينون بها ؛ فلأجل ذلك استن الناس إذا أحدث أحد حدثا غرب عن بلده ، وتمادى ذلك في الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأقره في الزنا خاصة . احتج من لم ير النفي على العبد بحديث  أبي هريرة  في الأمة ؛ ولأن تغريبه عقوبة لمالكه تمنعه من منافعه في مدة تغريبه ، ولا يناسب ذلك تصرف الشرع ، فلا يعاقب غير الجاني . وأيضا فقد سقط عنه الجمعة والحج والجهاد الذي هو حق لله تعالى لأجل السيد ؛ فكذلك التغريب . والله أعلم . 
والمرأة إذا غربت ربما يكون ذلك سببا لوقوعها فيما أخرجت من سببه وهو الفاحشة ، وفي التغريب سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها ؛ ولأن الأصل منعها من الخروج من بيتها وأن صلاتها فيه أفضل . وقال صلى الله عليه وسلم : أعروا النساء يلزمن الحجال فحصل من هذا تخصيص عموم حديث التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار . وهو مختلف فيه عند الأصوليين والنظار . وشذت طائفة فقالت : يجمع الجلد والرجم على الشيخ ، ويجلد الشاب  ؛ تمسكا بلفظ " الشيخ " في حديث  زيد بن ثابت  أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة خرجه  النسائي    . وهذا فاسد ؛ لأنه قد سماه في الحديث الآخر " الثيب " . 
السابعة : قوله تعالى : فإن تابا أي من الفاحشة . وأصلحا يعني العمل فيما بعد ذلك . فأعرضوا عنهما  أي اتركوا أذاهما وتعييرهما . وإنما كان هذا قبل نزول الحدود . فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية . وليس المراد بالإعراض الهجرة ، ولكنها متاركة معرض ؛ وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة ، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى . 
والله تواب أي راجع بعباده عن المعاصي . 
				
						
						
