قوله تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا    . 
فيه خمس مسائل : 
الأولى : اختلف العلماء في أذية الله بماذا تكون ؟ فقال الجمهور من العلماء : معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه ، ووصفه بما لا يليق به ، كقول اليهود  لعنهم الله : وقالت اليهود    : يد الله مغلولة . والنصارى    : المسيح  ابن الله . والمشركون : الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه . وفي صحيح  البخاري  قال الله تعالى : ( كذبني ابن آدم  ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك   . . ) الحديث . وقد تقدم في سورة ( مريم ) وفي صحيح مسلم  عن  أبي هريرة  قال قال الله تبارك وتعالى : ( يؤذيني ابن آدم  يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر  فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما   ) . هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على  أبي هريرة  في هذه الرواية . وقد جاء مرفوعا عنه ( يؤذيني ابن آدم  يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار   ) أخرجه أيضا مسلم    . وقال عكرمة    : معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعن الله المصورين   . 
 [ ص: 216 ] قلت : وهذا مما يقوي قول مجاهد  في المنع من تصوير الشجر وغيرها    ; إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى . وقد تقدم هذا في سورة ( النمل ) والحمد لله . وقالت فرقة : ذلك على حذف مضاف ، تقديره : يؤذون أولياء الله . وأما أذية رسوله صلى الله عليه وسلم  فهي كل ما يؤذيه من الأقوال في غير معنى واحد ، ومن الأفعال أيضا . أما قولهم : ( فساحر . شاعر . كاهن . مجنون ) . وأما فعلهم : ( فكسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد  ، وبمكة  إلقاء السلى على ظهره وهو ساجد ) إلى غير ذلك . وقال ابن عباس    : نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت أبي حيي    . وأطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات ؛ لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حق أبدا . وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات  فمنه ، ومنه : 
الثانية : قال علماؤنا : والطعن في تأمير أسامة بن زيد  أذية له عليه السلام    . روى الصحيح عن ابن عمر  قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد  فطعن الناس في إمرته ; فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده   . وهذا البعث - والله أعلم - هو الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة  وأمره عليهم وأمره أن يغزو ( أبنى    ) وهي القرية التي عند مؤتة  ، الموضع الذي قتل فيه زيد  أبوه مع  جعفر بن أبي طالب   وعبد الله بن رواحة     . فأمره أن يأخذ بثأر أبيه فطعن من في قلبه ريب في إمرته ; من حيث إنه كان من الموالي ، ومن حيث إنه كان صغير السن ; لأنه كان إذ ذاك ابن ثماني عشرة سنة ; فمات النبي صلى الله عليه وسلم وقد برز هذا البعث عن المدينة  ولم ينفصل بعد عنها ; فنفذه أبو بكر  بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . 
الثالثة : في هذا الحديث أوضح دليل على جواز إمامة المولى والمفضول  على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى . وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم  سالما مولى أبي حذيفة  على الصلاة بقباء  ، فكان يؤمهم وفيهم أبو بكر  وعمر  وغيرهم من كبراء قريش    . وروى الصحيح عن  عامر بن واثلة  أن نافع بن عبد الحارث  لقي عمر  بعسفان  ، وكان عمر  يستعمله على مكة  فقال : من استعملت على هذا الوادي ؟ قال : ابن أبزى    . قال : ومن ابن أبزى  ؟ قال : مولى من موالينا . قال : 
 [ ص: 217 ] فاستخلفت عليهم مولى ! قال : إنه لقارئ لكتاب الله وإنه لعالم بالفرائض - قال - أما إن نبيكم قد قال : إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين   . 
الرابعة : كان أسامة  رضي الله عنه الحب ابن الحب وبذلك كان يدعى ، وكان أسود شديد السواد  ، وكان زيد  أبوه أبيض من القطن . هكذا ذكره أبو داود  عن  أحمد بن صالح    . وقال غير أحمد    : كان زيد  أزهر اللون وكان أسامة  شديد الأدمة . ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن أسامة  وهو صغير ويمسح مخاطه ، وينقي أنفه ويقول : ( لو كان أسامة  جارية لزيناه وجهزناه وحببناه إلى الأزواج   ) . وقد ذكر أن سبب ارتداد العرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم  ، أنه لما كان عليه السلام في حجة الوداع بجبل عرفة  عشية عرفة عند النفر ، احتبس النبي صلى الله عليه وسلم قليلا بسبب أسامة  إلى أن أتاه ; فقالوا : ما احتبس إلا لأجل هذا ! تحقيرا له   . فكان قولهم هذا سبب ارتدادهم . ذكره  البخاري  في التاريخ بمعناه . والله أعلم . 
الخامسة : كان عمر  رضي الله عنه يفرض لأسامة  في العطاء خمسة آلاف ، ولابنه عبد الله  ألفين ; فقال له عبد الله    : فضلت علي أسامة  وقد شهدت ما لم يشهد ! فقال : إن أسامة  كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ، وأباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ، ففضل رضي الله عنه محبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبوبه . وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغض من أبغض    . وقد قابل مروان  هذا الحب بنقيضه ; وذلك أنه مر  بأسامة بن زيد  وهو يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مروان    : إنما أردنا أن نرى مكانك ، فقد رأينا مكانك ، فعل الله بك ! وقال قولا قبيحا . فقال له أسامة :  إنك آذيتني ، وإنك فاحش متفحش ، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله تعالى يبغض الفاحش المتفحش   . فانظر ما بين الفعلين وقس ما بين الرجلين ، فقد آذى بنو أمية  النبي صلى الله عليه وسلم في أحبابه ، وناقضوه في محابه . 
قوله تعالى : ( لعنهم الله ) معناه أبعدوا من كل خير . واللعن في اللغة : الإبعاد ، ومنه اللعان . وأعد لهم عذابا مهينا  تقدم معناه في غير موضع . والحمد لله رب العالمين . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					