السادسة عشرة : إن قال قائل : كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل ، فالجواب من وجوه ثلاثة 
الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع ، كما قال تعالى : فإن كان له إخوة فلأمه السدس  ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا   [ ص: 50 ] اثنان من الإخوة فصاعدا ، على ما يأتي بيانه في " النساء " . 
الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون أتباعهما ، كما قال تعالى : عليها تسعة عشر    . 
الثالث : إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما ، كما قال تعالى : فيهما فاكهة ونخل ورمان  وقوله : وجبريل وميكال    . وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله ، كقوله تعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي  وقوله : وجبريل وميكال  ، وإما لطيبه كقوله : فاكهة ونخل ورمان  ، وإما لأكثريته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا ، وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية ، والله تعالى أعلم . وقد قيل : إن ما عطف على السحر وهي مفعولة ، فعلى هذا يكون ما بمعنى الذي ، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء ، كما امتحن بنهر طالوت ، ولهذا يقول الملكان : إنما نحن فتنة ، أي محنة من الله ، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت ، وإن عصيتنا هلكت . وقد روي عن علي   وابن مسعود   وابن عباس   وابن عمر   وكعب الأحبار   والسدي  والكلبي  ما معناه : أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم  عليه السلام - وذلك في زمن إدريس  عليه السلام - عيرتهم الملائكة ، فقال الله تعالى : أما إنكم لو كنتم مكانهم ، وركبت فيكم ما ركبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم ، فقالوا : سبحانك ! ما كان ينبغي لنا ذلك ، قال : فاختاروا ملكين من خياركم ، فاختاروا هاروت  وماروت  ، فأنزلهما إلى الأرض فركب فيهما الشهوة ، فما مر بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية " بيدخت    " وبالفارسية " ناهيل    " وبالعربية " الزهرة    " اختصمت إليهما ، وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرم الله ، فأجاباها وشربا الخمر وألما بها ، فرآهما رجل فقتلاه ، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت فمسخت كوكبا . وقال سالم  عن أبيه عن عبد الله    :   [ ص: 51 ] فحدثني كعب  الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرم الله عليهما . وفي غير هذا الحديث : فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا ، فهما يعذبان ببابل  في سرب من الأرض . قيل : بابل العراق    . وقيل : بابل نهاوند  ، وكان ابن عمر  فيما يروى عن عطاء  أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلا سبهما وشتمهما ، ويقول : إن سهيلا كان عشارا باليمن  يظلم الناس ، وإن الزهرة  كانت صاحبة هاروت  وماروت    . 
قلنا : هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر  وغيره ، لا يصح منه شيء ، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه ، وسفراؤه إلى رسله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون    . يسبحون الليل والنهار لا يفترون    . وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة  ويوجد منهم خلاف ما كلفوه ، ويخلق فيهم الشهوات ، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم ، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء ، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح . ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء ، ففي الخبر : ( أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر " . وهذا معنى قول الله تعالى : وكل في فلك يسبحون    . فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلا قد كانا قبل خلق آدم  ، ثم إن قول الملائكة : " ما كان ينبغي لنا " عورة : لا تقدر على فتنتنا ، وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين ، وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره ونقله المفسرون ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					