[ ص: 323 ] قوله تعالى وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين  
فيه ثلاث مسائل : 
الأولى : قوله تعالى : وقاتلوا هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال ، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة  بقوله : ادفع بالتي هي أحسن  وقوله : فاعف عنهم واصفح  وقوله : واهجرهم هجرا جميلا  وقوله : لست عليهم بمسيطر  وما كان مثله مما نزل بمكة  ، فلما هاجر إلى المدينة  أمر بالقتال فنزل : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم  قاله الربيع بن أنس  وغيره ، وروي عن أبي بكر الصديق  أن أول آية نزلت في القتال    : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا  ، والأول أكثر ، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن لم يقاتل من المشركين ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة ، فلما نزل الحديبية  بقرب مكة    - والحديبية  اسم بئر ، فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر - فصده المشركون عن البيت ، وأقام بالحديبية  شهرا ، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء ، على أن تخلى له مكة  في العام المستقبل ثلاثة أيام ، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين ، ورجع إلى المدينة  ، فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام ، فنزلت هذه الآية ، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار ، فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهورها ، فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه ، حتى نزل فاقتلوا المشركين  فنسخت هذه الآية ، قاله جماعة من العلماء ، وقال ابن زيد  والربيع    : نسخها وقاتلوا المشركين كافة  فأمر بالقتال لجميع الكفار ، وقال ابن عباس   وعمر بن عبد العزيز  ومجاهد    : هي محكمة أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم ، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم ، على ما يأتي بيانه . قال  أبو جعفر النحاس    : وهذا أصح القولين   [ ص: 324 ] في السنة والنظر ، فأما السنة فحديث ابن عمر  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك ، ونهى عن قتل النساء والصبيان ، رواه الأئمة ، وأما النظر فإن " فاعل " لا يكون في الغالب إلا من اثنين ، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة ، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم ، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون ، وبهذا أوصى أبو بكر الصديق  رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان  حين أرسله إلى الشام  ، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية ، أخرجه مالك  وغيره ، وللعلماء فيهم صور ست : 
الأولى : النساء إن قاتلن قتلن ، قال سحنون    : في حالة المقاتلة وبعدها ، لعموم قوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم  ، واقتلوهم حيث ثقفتموهم    . وللمرأة آثار عظيمة في القتال ، منها الإمداد بالأموال ، ومنها التحريض على القتال ، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار ، وذلك يبيح قتلهن ، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن ، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال . 
الثانية : الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية    ; ولأنه لا تكليف عليهم ، فإن قاتل [ الصبي ] قتل . 
الثالثة : الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون  ، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم ، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر ، لقول أبي بكر  ليزيد    : " وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم   [ ص: 325 ] لله ، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له " فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا ، ولو ترهبت المرأة فروى أشهب  أنها لا تهاج . وقال سحنون    : لا يغير الترهب حكمها . قال  القاضي أبو بكر بن العربي    : " والصحيح عندي رواية أشهب    ; لأنها داخلة تحت قوله : " فذرهم وما حبسوا أنفسهم له " . 
الرابعة : الزمنى    . قال سحنون    : يقتلون ، وقال ابن حبيب    : لا يقتلون ، والصحيح أن تعتبر أحوالهم ، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا ، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة . 
الخامسة : الشيوخ    . قال مالك  في كتاب محمد    : لا يقتلون ، والذي عليه جمهور الفقهاء : إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال ، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل ، وبه قال مالك   وأبو حنيفة    .  وللشافعي  قولان : أحدهما : مثل قول الجماعة ، والثاني : يقتل هو والراهب ، والصحيح الأول لقول أبي بكر  ليزيد  ، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع ، وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة ، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء : القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية . 
السادسة : العسفاء ، وهم الأجراء والفلاحون  ، فقال مالك  في كتاب محمد    : لا يقتلون وقال  الشافعي    : يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية . والأول أصح ، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن الربيع  الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا ، وقال عمر بن الخطاب    : اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذي لا ينصبون لكم الحرب ، وكان عمر بن عبد العزيز  لا يقتل حراثا ، ذكره ابن المنذر    . 
الثانية : روى أشهب  عن مالك  أن المراد بقوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم  أهل الحديبية  أمروا بقتال من قاتلهم ، والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين ، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه . ألا تراه كيف بينها في سورة " براءة " بقوله :   [ ص: 326 ] قاتلوا الذين يلونكم من الكفار  وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة  فتعينت البداءة بهم ، فلما فتح الله مكة  كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة ، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة ، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ، وقيل : غايته نزول عيسى ابن مريم  عليه السلام ، وهو موافق للحديث الذي قبله ; لأن نزوله من أشراط الساعة . 
الثالثة : ولا تعتدوا قيل في تأويله ما قدمناه ، فهي محكمة ، فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة ، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة ، ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب . وأما الخوارج على أئمة العدل  فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق ، وقال قوم : المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله ، كالحمية وكسب الذكر ، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، يعني دينا وإظهارا للكلمة ، وقيل : لا تعتدوا أي لا تقاتلوا من لم يقاتل ، فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار ، والله أعلم . 
				
						
						
