قوله تعالى : وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين  
 قوله تعالى : إن الله اصطفاك  أي اختارك ، وقد تقدم . 
وطهرك أي من الكفر ; عن مجاهد  والحسن    . الزجاج    : من سائر الأدناس من الحيض والنفاس وغيرهما ، واصطفاك لولادة عيسى    . 
على نساء العالمين  يعني عالمي زمانها ; عن الحسن   وابن جريج  وغيرهما . وقيل : على نساء العالمين  أجمع إلى يوم الصور ، وهو الصحيح على ما نبينه ، وهو قول الزجاج  وغيره . وكرر الاصطفاء لأن معنى الأول الاصطفاء لعبادته ، ومعنى الثاني لولادة عيسى    . 
وروى مسلم  عن أبي موسى  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران  وآسية  امرأة فرعون وإن فضل عائشة  على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام   . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : الكمال هو التناهي والتمام ; ويقال في ماضيه " كمل " بفتح الميم وضمها ، ويكمل في مضارعه بالضم ، وكمال كل شيء بحسبه .   [ ص: 78 ] والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة . ولا شك أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين . وإذا تقرر هذا فقد قيل : إن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوة فيلزم عليه أن تكون مريم  عليها السلام وآسية  نبيتين ، وقد قيل بذلك . والصحيح أن مريم  نبية ; لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين حسب ما تقدم ويأتي بيانه أيضا في " مريم    " . وأما آسية  فلم يرد ما يدل على نبوتها دلالة واضحة بل على صديقيتها وفضلها ، على ما يأتي بيانه في ( التحريم ) . وروي من طرق صحيحة أنه عليه السلام قال فيما رواه عنه  أبو هريرة    : خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران  وآسية بنت مزاحم  امرأة فرعون   وخديجة بنت خويلد   وفاطمة بنت محمد    . ومن حديث ابن عباس  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أفضل نساء أهل الجنة   خديجة بنت خويلد   وفاطمة بنت محمد  ومريم بنت عمران  وآسية بنت مزاحم  امرأة فرعون   . وفي طريق آخر عنه : سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم  فاطمة   وخديجة    . فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم  أفضل من جميع نساء العالم  من حواء  إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة ; فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عز وجل بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء ; فهي إذا نبية والنبي أفضل من الولي   [ ص: 79 ] فهي أفضل من كل النساء : الأولين والآخرين مطلقا . ثم بعدها في الفضيلة فاطمة  ثم خديجة  ثم آسية    . وكذلك رواه  موسى بن عقبة  عن كريب  عن ابن عباس  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية   . وهذا حديث حسن يرفع الإشكال . وقد خص الله مريم  بما لم يؤته أحدا من النساء ; وذلك أن روح القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة ; فليس هذا لأحد من النساء . وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية عندما بشرت كما سأل زكريا    - صلى الله عليه وسلم - من الآية ; ولذلك سماها الله في تنزيله صديقة فقال : وأمه صديقة    . وقال : وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين  فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقنوت . وإنما بشر زكريا  بغلام فلحظ إلى كبر سنه وعقامة رحم امرأته فقال : أنى يكون لي غلام وامرأتي عاقر ، فسأل آية . وبشرت مريم  بالغلام فلحظت أنها بكر ولم يمسسها بشر فقيل لها : كذلك قال ربك  فاقتصرت على ذلك ، وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كنه هذا الأمر ، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب . ولذلك روي أنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة ; جاء في الخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - : لو أقسمت لبررت لا يدخل الجنة قبل سابقي أمتي إلا بضعة عشر رجلا منهم إبراهيم  وإسماعيل  وإسحاق  ويعقوب  والأسباط  وموسى  وعيسى  ومريم ابنة عمران    . وقد كان يحق على من انتحل علم الظاهر واستدل بالأشياء الظاهرة على الأشياء الباطنة أن يعرف قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا سيد ولد آدم ولا فخر وقوله   [ ص: 80 ] حيث يقول : لواء الحمد يوم القيامة بيدي ومفاتيح الكرم بيدي وأنا أول خطيب وأول شفيع وأول مبشر وأول ، وأول   . فلم ينل هذا السؤدد في الدنيا على الرسل إلا لأمر عظيم في الباطن . وكذلك شأن مريم  لم تنل شهادة الله في التنزيل بالصديقية والتصديق بالكلمات إلا لمرتبة قريبة دانية . ومن قال لم تكن نبية قال : إن رؤيتها للملك كما رئي جبريل    - عليه السلام - في صفة  دحية الكلبي  حين سؤاله عن الإسلام والإيمان ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء ، والأول أظهر ، وعليه الأكثر ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					