( واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى    ( 22 ) لنريك من آياتنا الكبرى   ( 23 ) اذهب إلى فرعون إنه طغى   ( 24 ) قال رب اشرح لي صدري   ( 25 ) ويسر لي أمري   ( 26 ) واحلل عقدة من لساني   ( 27 ) يفقهوا قولي   ( 28 ) واجعل لي وزيرا من أهلي   ( 29 ) هارون أخي   ( 30 ) اشدد به أزري   ( 31 ) وأشركه في أمري   ( 32 ) كي نسبحك كثيرا   ( 33 ) ونذكرك كثيرا   ( 34 ) إنك كنت بنا بصيرا   ( 35 ) ) . 
وهذا برهان ثان لموسى ،  عليه السلام ، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه ، كما صرح به في الآية الأخرى ، وهاهنا عبر عن ذلك بقوله : ( واضمم يدك إلى جناحك   ) وقال في مكان آخر : ( واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه   ) [ القصص : 32 ] . 
وقال مجاهد   : ( واضمم يدك إلى جناحك   ) كفه تحت عضده . 
وذلك أن موسى ،  عليه السلام ، كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها ، تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر . 
وقوله : ( تخرج بيضاء من غير سوء   ) أي : من غير برص ولا أذى ، ومن غير شين . قاله ابن عباس  ، ومجاهد ،  وعكرمة ،  وقتادة ،  والضحاك ،   والسدي ،  وغيرهم . 
وقال  الحسن البصري   : أخرجها - والله - كأنها مصباح ، فعلم موسى  أنه قد لقي ربه عز وجل; ولهذا قال تعالى : ( لنريك من آياتنا الكبرى   ) . 
وقال وهب   : قال له ربه : ادنه : فلم يزل يدنيه حتى شد ظهره بجذع الشجرة ، فاستقر وذهبت عنه الرعدة ، وجمع يده في العصا ، وخضع برأسه وعنقه . 
وقوله ( اذهب إلى فرعون إنه طغى    ) أي : اذهب إلى فرعون  ملك مصر  ، الذي خرجت فارا منه  [ ص: 281 ] وهاربا ، فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم ، فإنه قد طغى وبغى ، وآثر الحياة الدنيا ، ونسي الرب الأعلى . 
قال  وهب بن منبه   : قال الله لموسى   : انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي ، وإني معك أيدي ونصري ، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري ، فأنت جند عظيم من جندي ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي ، بطر نعمتي ، وأمن مكري ، وغرته الدنيا عني ، حتى جحد حقي ، وأنكر ربوبيتي ، وزعم أنه لا يعرفني ، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي ، لبطشت به بطشة جبار ، يغضب لغضبه السماوات والأرض ، والجبال والبحار ، فإن أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دمرته ، وإن أمرت البحار غرقته ، ولكنه هان علي ، وسقط من عيني ، ووسعه حلمي ، واستغنيت بما عندي ، وحقي إني أنا الغني لا غني غيري ، فبلغه رسالتي ، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي ، وذكره أيامي وحذره نقمتي وبأسي ، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي ، وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ، وخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا ، فإن ناصيته بيدي ، ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني ، وقل له : أجب ربك فإنه واسع المغفرة ، وقد أمهلك أربعمائة سنة ، في كلها أنت مبارزه بالمحاربة ، تسبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء ، وينبت لك الأرض ، و لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل ، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم . وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة - ولا قليل مني - تغلب الفئة الكثيرة بإذني ، ولا تعجبنكما زينته ، ولا ما متع به ، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما ، فإنها زهر الحياة الدنيا ، وزينة المترفين . ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ، ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما ، فعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك ، وأزويه عنكما . وكذلك أفعل بأوليائي ، وقديما ما جرت عادتي في ذلك . فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها ، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة ، وما ذاك لهوانهم علي ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا . 
واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ مما عندي - من الزهد في الدنيا ، فإنها زينة المتقين ، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أولئك أوليائي حقا حقا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك ، وذلل قلبك ولسانك ، واعلم أنه من أهان لي  [ ص: 282 ] وليا أو أخافه ، فقد بارزني بالمحاربة ، وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ، أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني ، أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني . وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ، لا أكل مضطرهم إلى غيري . 
رواه ابن أبي حاتم   . 
( قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري   ) هذا سؤال من موسى ،  عليه السلام ، لربه عز وجل ، أن يشرح له صدره فيما بعثه به ، فإنه قد أمره بأمر عظيم ، وخطب جسيم ، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك ، وأجبرهم ، وأشدهم كفرا ، وأكثرهم جنودا ، وأعمرهم ملكا ، وأطغاهم وأبلغهم تمردا ، بلغ من أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله ، ولا يعلم لرعاياه إلها غيره . 
هذا وقد مكث موسى  في داره مدة وليدا عندهم ، في حجر فرعون ،  على فراشه ، ثم قتل منهم نفسا فخافهم أن يقتلوه ، فهرب منهم هذه المدة بكمالها . ثم بعد هذا بعثه ربه عز وجل إليهم نذيرا يدعوهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له; ولهذا قال : ( رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري   ) أي : إن لم تكن أنت عوني ونصيري ، وعضدي وظهيري ، وإلا فلا طاقة لي بذلك . 
( واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي   ) وذلك لما كان أصابه من اللثغ ، حين عرض عليه التمرة والجمرة ، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه ، كما سيأتي بيانه ، وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل بحيث يزول العي ، ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة . ولو سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت بقية ، قال الله تعالى إخبارا عن فرعون  أنه قال : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين   ) [ الزخرف : 52 ] أي : يفصح بالكلام . 
وقال  الحسن البصري   : ( واحلل عقدة من لساني   ) قال : حل عقدة واحدة ، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي . 
وقال ابن عباس   : شكا موسى  إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون  يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه سؤله ، فحل عقدة من لسانه . 
وقال ابن أبي حاتم   : ذكر عن عمرو بن عثمان  ، حدثنا بقية ،  عن أرطاة بن المنذر  ، حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب  ، عنه قال : أتاه ذو قرابة له . فقال له : ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك ، ولست تعرب في قراءتك ؟ فقال القرظي   : يا ابن أخي ، ألست أفهمك إذا حدثتك ؟ قال :  [ ص: 283 ] نعم . قال : فإن موسى ،  عليه السلام ، إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل كلامه ، ولم يزد عليها . هذا لفظه . 
وقوله : ( واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي   ) : وهذا أيضا سؤال من موسى  في أمر خارجي عنه ، وهو مساعدة أخيه هارون  له . 
قال الثوري ،  عن أبي سعيد  ، عن عكرمة ،  عن ابن عباس  أنه قال : فنبئ هارون  ساعتئذ حين نبئ موسى ،  عليهما السلام . 
وقال ابن أبي حاتم   : ذكر عن ابن نمير  ، حدثنا أبو أسامة  ، عن  هشام بن عروة  عن أبيه ، عن عائشة  أنها خرجت فيما كانت تعتمر ، فنزلت ببعض الأعراب ، فسمعت رجلا يقول : أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه ؟ قالوا : ما ندري . قال : والله أنا أدري . قالت : فقلت في نفسي : في حلفه لا يستثني ، إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه . قال : موسى  حين سأل لأخيه النبوة . فقلت : صدق والله . قلت : وفي هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى ،  عليه السلام : ( وكان عند الله وجيها   ) [ الأحزاب : 69 ] . 
وقوله : ( اشدد به أزري   ) قال مجاهد   : ظهري . 
( وأشركه في أمري   ) 
أي : في مشاورتي . 
( كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا   ) قال مجاهد   : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا ، حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا . 
وقوله : ( إنك كنت بنا بصيرا   ) أي : في اصطفائك لنا ، وإعطائك إيانا النبوة ، وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون ،  فلك الحمد على ذلك . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					