( إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون    ( 7 ) فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين   ( 8 ) يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم   ( 9 ) وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون   ( 10 ) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم   ( 11 ) وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين   ( 12 ) فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين   ( 13 ) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين   ( 14 ) ) 
 [ ص: 179 ] 
يقول تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مذكرا له ما كان من أمر موسى  ، كيف اصطفاه الله وكلمه ، وناجاه وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة ، والأدلة القاهرة ، وابتعثه إلى فرعون  وملئه ، فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له ، فقال تعالى : ( إذ قال موسى لأهله   ) أي : اذكر حين سار موسى  بأهله ، فأضل الطريق ، وذلك في ليل وظلام ، فآنس من جانب الطور  نارا ، أي : رأى نارا تأجج وتضطرم ، فقال ( لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر   ) أي : عن الطريق ، ( أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون   ) أي : تتدفئون به . وكان كما قال ، فإنه رجع منها بخبر عظيم ، واقتبس منها نورا عظيما ; ولهذا قال تعالى : ( فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها   ) أي : فلما أتاها رأى منظرا هائلا عظيما ، حيث انتهى إليها ، والنار تضطرم في شجرة خضراء ، لا تزداد النار إلا توقدا ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء . 
قال ابن عباس  وغيره : لم تكن نارا ، إنما كانت نورا يتوهج . 
وفي رواية عن ابن عباس   : نور رب العالمين . فوقف موسى  متعجبا مما رأى ، فنودي أن بورك من في النار . قال ابن عباس   : [ أي ] قدس . 
( ومن حولها   ) أي : من الملائكة . قاله ابن عباس  ، وعكرمة  ،  وسعيد بن جبير  ، والحسن  ، وقتادة   . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا يونس بن حبيب  ، حدثنا أبو داود - [ و ] هو الطيالسي -  حدثنا شعبة  والمسعودي  ، عن عمرو بن مرة  ، سمع أبا عبيدة  يحدث ، عن أبي موسى  ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل  . زاد المسعودي :  " وحجابه النور - أو النار - لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره "  . ثم قرأ أبو عبيدة   : ( أن بورك من في النار ومن حولها   )  [ ص: 180 ] وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيح لمسلم  ، من حديث عمرو بن مرة  ، به . 
وقوله : ( وسبحان الله رب العالمين    ) أي : الذي يفعل ما يشاء ولا يشبه شيئا من مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العلي العظيم ، المباين لجميع المخلوقات ، ولا يكتنفه الأرض والسموات ، بل هو الأحد الصمد ، المنزه عن مماثلة المحدثات . 
وقوله : ( يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم   ) أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز ، الذي عز كل شيء وقهره وغلبه ، الحكيم في أفعاله وأقواله . 
ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ; ليظهر له دليلا واضحا على أنه الفاعل المختار ، القادر على كل شيء . فلما ألقى موسى  تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة في غاية الكبر ، وسرعة الحركة مع ذلك ; ولهذا قال : ( فلما رآها تهتز كأنها جان   ) والجان : ضرب من الحيات ، أسرعه حركة ، وأكثره اضطرابا - وفي الحديث نهي عن قتل جنان البيوت   - فلما عاين موسى  ذلك ( ولى مدبرا ولم يعقب   ) أي : لم يلتفت من شدة فرقه ( ياموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون   ) أي : لا تخف مما ترى ، فإني أريد أن أصطفيك رسولا وأجعلك نبيا وجيها . 
وقوله : ( إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم   ) هذا استثناء منقطع ، وفيه بشارة عظيمة للبشر ، وذلك أن من كان على [ عمل ] شيء ثم أقلع عنه ، ورجع وأناب ، فإن الله يتوب عليه ، كما قال تعالى : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى   ) [ طه : 82 ] ، وقال تعالى : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما   ) [ النساء : 110 ] والآيات في هذا كثيرة جدا . 
وقوله : ( وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء   ) هذه آية أخرى ، ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار ، وصدق من جعل له معجزة ، وذلك أن الله - تعالى - أمره أن يدخل يده في جيب درعه ، فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة ، كأنها قطعة قمر ، لها لمعان يتلألأ كالبرق الخاطف . 
وقوله : ( في تسع آيات   ) أي : هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن ، وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون  وقومه ( إنهم كانوا قوما فاسقين   ) . 
وهذه هي الآيات التسع التي قال الله تعالى : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات   ) [ الإسراء : 101 ] كما تقدم تقرير ذلك هنالك . 
وقوله : ( فلما جاءتهم آياتنا مبصرة   ) أي : بينة واضحة ظاهرة ،  [ ص: 181 ]  ( قالوا هذا سحر مبين   ) وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا [ هنالك ] ( وانقلبوا صاغرين   ) . 
( وجحدوا بها   ) أي : في ظاهر أمرهم ، ( واستيقنتها أنفسهم   ) أي : علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله ، ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها ، ( ظلما وعلوا   ) أي : ظلما من أنفسهم ، سجية ملعونة ، ( وعلوا   ) أي : استكبارا عن اتباع الحق ; ولهذا قال : ( فانظر كيف كان عاقبة المفسدين   ) أي : انظر يا محمد  كيف كان عاقبة كفرهم ، في إهلاك الله إياهم ، وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة . 
وفحوى الخطاب يقول : احذروا أيها المكذبون بمحمد  ، الجاحدون لما جاء به من ربه  ، أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى ; فإن محمدا  ، صلوات الله وسلامه عليه أشرف وأعظم من موسى  ، وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى  ، بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله ، وما سبقه من البشارات من الأنبياء به ، وأخذ المواثيق له ، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					