( ولقد آتينا داود وسليمان علما  وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين   ( 15 ) وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين   ( 16 ) وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون   ( 17 ) حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون   ( 18 ) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين   ( 19 ) ) . 
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه داود  وابنه سليمان  ، عليهما من الله السلام ، من النعم الجزيلة ، والمواهب الجليلة ، والصفات الجميلة ، وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة ، والملك والتمكين التام في الدنيا ، والنبوة والرسالة في الدين ; ولهذا قال : ( ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين   ) . 
قال ابن أبي حاتم   : ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام   : أخبرني أبي ، عن جدي قال : كتب عمر بن عبد العزيز   : إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها ، إلا كان حمده أفضل من نعمته ، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل  ; قال الله تعالى : ( ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين   ) ، وأي نعمة أفضل مما أوتي داود   [ ص: 182 ] وسليمان  ، عليهما السلام ؟ 
وقوله : ( وورث سليمان داود   ) أي : في الملك والنبوة ، وليس المراد وراثة المال ; إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان  وحده من بين سائر أولاد داود  ، فإنه قد كان لداود  مائة امرأة . ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة ; فإن الأنبياء لا تورث أموالهم  ، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ في قوله ] : نحن معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة  . 
وقوله : ( يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء   ) ، أي : أخبر سليمان  بنعم الله عليه ، فيما وهبه له من الملك التام ، والتمكين العظيم ، حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير . وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضا ، وهذا شيء لم يعطه أحد من البشر - فيما علمناه - مما أخبر الله به ورسوله . ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم  قبل سليمان بن داود   - كما يتفوه به كثير من الناس - فهو قول بلا علم . ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان  بذلك فائدة ; إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم ، ويعرف ما تقول ، فليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا ، بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال . ولكن الله سبحانه وتعالى ، كان قد أفهم سليمان  ، عليه السلام ، ما يتخاطب به الطيور في الهواء ، وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها ; ولهذا قال : ( علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء   ) أي : مما يحتاج إليه الملك ، ( إن هذا لهو الفضل المبين   ) أي : الظاهر البين لله علينا . 
قال  الإمام أحمد   : حدثنا قتيبة  ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن  ، عن  عمرو بن أبي عمرو  ، عن المطلب  ، عن  أبي هريرة  ، رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :  " كان داود ،  عليه السلام ، فيه غيرة شديدة ، فكان إذا خرج أغلقت الأبواب ، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع " . قال : " فخرج ذات يوم وأغلقت الأبواب ، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار ، فإذا رجل قائم وسط الدار ، فقالت لمن في البيت : من أين دخل هذا الرجل ، والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود ،  فجاء داود ،  عليه السلام ، فإذا الرجل قائم وسط الدار ، فقال له داود   : من أنت ؟ قال : الذي لا يهاب الملوك ، ولا يمتنع من الحجاب . فقال داود   : أنت والله إذا ملك الموت . مرحبا بأمر الله ، فتزمل داود ،  عليه السلام ، مكانه حتى قبضت نفسه ، حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس ، فقال سليمان ،  عليه السلام ، للطير : أظلي على داود  ،  فأظلت عليه الطير حتى أظلمت عليهما الأرض ،  [ ص: 183 ] فقال لها سليمان   : اقبضي جناحا جناحا " قال  أبو هريرة   : يا رسول الله ، كيف فعلت الطير ؟ فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ، وغلبت عليه يومئذ المضرحية  . 
قال  أبو الفرج بن الجوزي   : المضرحية النسور الحمر . 
وقوله تعالى : ( وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون   ) أي : وجمع لسليمان  جنوده من الجن والإنس والطير يعني : ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس ، وكانوا هم الذين يلونه ، والجن وهم بعدهم [ يكونون ] في المنزلة ، والطير ومنزلتها فوق رأسه ، فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها . 
وقوله : ( فهم يوزعون   ) أي : يكف أولهم على آخرهم ; لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له . 
قال مجاهد   : جعل على كل صنف وزعة ، يردون أولاها على أخراها ، لئلا يتقدموا في المسير ، كما يفعل الملوك اليوم . 
وقوله : ( حتى إذا أتوا على وادي النمل   ) أي : حتى إذا مر سليمان ،  عليه السلام ، بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل ، ( قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون   ) . 
أورد  ابن عساكر  ، من طريق  إسحاق بن بشر  ، عن سعيد  ، عن قتادة  ، عن الحسن   : أن اسم هذه النملة حرس ، وأنها من قبيلة يقال لهم : بنو الشيصان ، وأنها كانت عرجاء ، وكانت بقدر الذيب . 
أي : خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها ، فأمرتهم بالدخول إلى مساكنها ففهم ذلك سليمان ،  عليه السلام ، منها . 
( فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه   ) أي : ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي ، من تعليمي منطق الطير والحيوان ، وعلى والدي بالإسلام لك ، والإيمان بك ، ( وأن أعمل صالحا ترضاه   ) أي : عملا تحبه وترضاه ، ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين   ) أي : إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك ، والرفيق الأعلى من أوليائك . 
ومن قال من المفسرين : إن هذا الوادي كان بأرض الشام  أو بغيره ، وإن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب ، أو غير ذلك من الأقاويل ، فلا حاصل لها . 
 [ ص: 184 ] 
وعن نوف البكالي  أنه قال : كان نمل سليمان  أمثال الذئاب . هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت . وإنما هو بالباء الموحدة ، وذلك تصحيف ، والله أعلم . 
والغرض أن سليمان ،  عليه السلام ، فهم قولها ، وتبسم ضاحكا من ذلك ، وهذا أمر عظيم جدا . 
وقد قال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا  محمد بن بشار  ، حدثنا  يزيد بن هارون  ، أنبأنا مسعر  ، عن زيد العمي  ، عن أبي الصديق الناجي  قال : خرج سليمان  عليه السلام يستسقي ، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها ، رافعة قوائمها إلى السماء ، وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ، ولا غنى بنا عن سقياك ، وإلا تسقنا تهلكنا . فقال سليمان  عليه السلام : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم  . 
وقد ثبت في الصحيح - عند مسلم   - من طريق عبد الرزاق  ، عن معمر  ، عن همام  ، عن  أبي هريرة  ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ قال ] قرصت نبيا من الأنبياء نملة ، فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى الله إليه ، أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ؟ فهلا نملة واحدة ! "  . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					