( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير    ( 22 ) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير   ( 23 ) ) . 
بين تعالى أنه الإله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لا نظير له ولا شريك له ، بل هو المستقل بالأمر وحده ، من غير مشارك ولا منازع ولا معارض ، فقال : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله   ) أي : من الآلهة التي عبدت من دونه ( لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض   ) ، كما قال تبارك وتعالى : ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير   ) [ فاطر : 13 ] . 
وقوله : ( وما لهم فيهما من شرك   ) أي : لا يملكون شيئا استقلالا ولا على سبيل الشركة ، ( وما له منهم من ظهير   ) أي : وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور ، بل  [ ص: 514 ] الخلق كلهم فقراء إليه ، عبيد لديه . 
قال قتادة  في قوله : ( وما له منهم من ظهير   ) ، من عون يعينه بشيء . 
وقال : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له   ) أي : لعظمته [ وجلاله ] وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة ، كما قال تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه   ) [ البقرة : 255 ] ، وقال : ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء [ ويرضى ]   ) [ النجم : 26 ] ، وقال : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون   ) [ الأنبياء : 28 ] . 
ولهذا ثبت في الصحيحين ، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم ،  وأكبر شفيع عند الله - : أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم أن يأتي ربهم لفصل القضاء ، قال :  " فأسجد لله فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن ، ثم يقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعطه واشفع تشفع " الحديث بتمامه . 
وقوله : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق   ) . وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة . وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي ، سمع أهل السماوات كلامه ، أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي . قاله ابن مسعود  ومسروق ،  وغيرهما . 
( حتى إذا فزع عن قلوبهم   ) أي : زال الفزع عنها . قال ابن عباس ،   وابن عمر   وأبو عبد الرحمن السلمي   والشعبي ،   وإبراهيم النخعي ،  والضحاك  والحسن ،  وقتادة  في قوله تعالى : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم   ) يقول : جلي عن قلوبهم ، وقرأ بعض السلف - وجاء مرفوعا - : " [ حتى ] إذا فرغ " بالغين المعجمة ، ويرجع إلى الأول . 
فإذا كان كذلك يسأل بعضهم بعضا : ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم ، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا; ولهذا قال : ( قالوا الحق   ) أي : أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان ، ( وهو العلي الكبير   ) . 
وقال آخرون : بل معنى قوله : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم   ) يعني : المشركين عند الاحتضار ، ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم : الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا . 
قال ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد   : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم   ) : كشف عنها الغطاء يوم القيامة . 
وقال الحسن   : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم   ) يعني : ما فيها من الشك والتكذيب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم   : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم   ) يعني : ما فيها من الشك ،  [ ص: 515 ] قال : فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم ، ( قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير   ) قال : وهذا في بني آدم ،  هذا عند الموت ، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار . 
وقد اختار ابن جرير  القول الأول : أن الضمير عائد على الملائكة . هذا هو الحق الذي لا مرية فيه ، لصحة الأحاديث فيه والآثار ، ولنذكر منها طرفا يدل على غيره : 
قال  البخاري  عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه : حدثنا  الحميدي ،  حدثنا سفيان ،  حدثنا عمرو ،  سمعت عكرمة ،  سمعت  أبا هريرة  يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :  " إذا قضى الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ، ومسترق السمع - هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بيده - فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة ، فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء  . 
انفرد بإخراجه  البخاري  دون مسلم  من هذا الوجه . وقد رواه أبو داود ،   والترمذي ،   وابن ماجه ،  من حديث سفيان بن عيينة ،  به . 
حديث آخر : قال  الإمام أحمد   : حدثنا محمد بن جعفر  وعبد الرزاق   : أخبرنا معمر ،  أخبرنا الزهري ،  عن علي بن الحسين ،  عن ابن عباس  قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ جالسا ] في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق   : " من الأنصار   " - فرمي بنجم فاستنار ، [ قال ] : " ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية ؟ " قالوا : كنا نقول يولد عظيم ، أو يموت عظيم - قلت للزهري   : أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال : نعم ، ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم - قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا ، تبارك وتعالى ، إذا قضى أمرا سبح حملة العرش [ ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح هذه الدنيا ، ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش ، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ] : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ويخبر أهل كل سماء سماء; حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجن السمع فيرمون ، فما جاءوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون  . 
هكذا رواه  الإمام أحمد   . وقد أخرجه مسلم  في صحيحه ، من حديث صالح بن كيسان  ،  [ ص: 516 ]  والأوزاعي ،  ويونس   ومعقل بن عبيد الله  ، أربعتهم عن الزهري ،  عن علي بن الحسين ،  عن ابن عباس  عن رجل من الأنصار ،  به . ورواه وقال يونس   : عن رجال من الأنصار  ، وكذا رواه  النسائي  في " التفسير " من حديث الزبيدي ،  عن الزهري ،  به . ورواه الترمذي  فيه عن الحسين بن حريث;  عن  الوليد بن مسلم ،  عن الأوزاعي ،  عن الزهري ،  عن عبيد الله بن عبد الله ،  عن ابن عباس ،  عن رجل من الأنصار ،  رضي الله عنه ، والله أعلم . 
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم   : حدثنا محمد بن عوف   وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي   - والسياق لمحمد بن عوف   - قالا حدثنا نعيم بن حماد ،  حدثنا  الوليد - هو ابن مسلم -  عن  عبد الرحمن بن يزيد بن جابر  ، عن  عبد الله بن أبي زكرياء  ، عن  رجاء بن حيوة  ، عن النواس بن سمعان  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي ، فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة - أو قال : رعدة - شديدة; من خوف الله ، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فيمضي به جبريل  على الملائكة ، كلما مر بسماء سماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول : قال : الحق ، وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ،  فينتهي جبريل  بالوحي حيث أمره الله من السماء والأرض " . 
وكذا رواه ابن جرير  وابن خزيمة  ، عن زكريا بن أبان المصري  ، عن نعيم بن حماد  ، به . 
قال ابن أبي حاتم   : سمعت أبي يقول : ليس هذا الحديث بالشام  عن  الوليد بن مسلم  ، رحمه الله . 
وقد روى ابن أبي حاتم  من حديث العوفي ،  عن ابن عباس   - وعن قتادة :  أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله سبحانه إلى محمد  صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى ،  ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					