( فلما أسلما وتله للجبين   ( 103 ) وناديناه أن يا إبراهيم   ( 104 ) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين   ( 105 ) إن هذا لهو البلاء المبين   ( 106 ) وفديناه بذبح عظيم   ( 107 ) وتركنا عليه في الآخرين   ( 108 ) سلام على إبراهيم   ( 109 ) كذلك نجزي المحسنين   ( 110 ) إنه من عبادنا المؤمنين   ( 111 ) وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين   ( 112 ) وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين   ( 113 ) ) 
يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم   [ عليه السلام ] : إنه بعد ما نصره الله على قومه وأيس من  [ ص: 27 ] إيمانهم بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة ، هاجر من بين أظهرهم ، وقال : ( إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين   ) يعني : أولادا مطيعين عوضا من قومه وعشيرته الذين فارقهم . قال الله تعالى : ( فبشرناه بغلام حليم   ) وهذا الغلام هو إسماعيل   - عليه السلام - فإنه أول ولد بشر به إبراهيم   - عليه السلام - وهو أكبر من إسحاق  باتفاق المسلمين وأهل الكتاب  ، بل في نص كتابهم أن إسماعيل  ولد ولإبراهيم   - عليه السلام - ست وثمانون سنة ، وولد إسحاق  وعمر إبراهيم  تسع وتسعون سنة . وعندهم أن الله تعالى أمر إبراهيم  أن يذبح ابنه وحيده ، وفي نسخة : بكره ، فأقحموا هاهنا كذبا وبهتانا " إسحاق   " ، ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم ، وإنما أقحموا " إسحاق   " لأنه أبوهم ، وإسماعيل  أبو العرب  ، فحسدوهم ، فزادوا ذلك وحرفوا وحيدك ، بمعنى الذي ليس عندك غيره ، فإن إسماعيل  كان ذهب به وبأمه إلى جنب مكة  وهذا تأويل وتحريف باطل ، فإنه لا يقال : " وحيد " إلا لمن ليس له غيره ، وأيضا فإن أول ولد له معزة ما ليس لمن بعده من الأولاد ، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار . 
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق  ، وحكي ذلك عن طائفة من السلف ، حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا ، وليس ذلك في كتاب ولا سنة ، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب  ، وأخذ ذلك مسلما من غير حجة . وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل  ، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم ، وذكر أنه الذبيح ، ثم قال بعد ذلك : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين   ) . ولما بشرت الملائكة إبراهيم  بإسحاق  قالوا : ( إنا نبشرك بغلام عليم   ) [ الحجر : 53 ] . وقال تعالى : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب   ) [ هود : 71 ] ، أي : يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب  ، فيكون من ذريته عقب ونسل . وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير ; لأن الله [ تعالى ] قد وعدهما بأنه سيعقب ، ويكون له نسل ، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا ، وإسماعيل  وصف هاهنا بالحليم ; لأنه مناسب لهذا المقام . 
وقوله : ( فلما بلغ معه السعي   ) أي : كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه . وقد كان إبراهيم   - عليه السلام - يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد " فاران   " وينظر في أمرهما ، وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك ، فالله أعلم . 
وعن ابن عباس  ومجاهد  وعكرمة  ،  وسعيد بن جبير  ،  وعطاء الخراساني  ، وزيد بن أسلم  ، وغيرهم : ( فلما بلغ معه السعي   ) يعني : شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل ، ( فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى   ) قال  عبيد بن عمير   : رؤيا الأنبياء وحي ، ثم تلا هذه الآية : ( قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى   ) 
وقد قال ابن أبي حاتم   : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد  ، حدثنا أبو عبد الملك الكرندي  ، حدثنا  [ ص: 28 ] سفيان بن عيينة  ، عن  إسرائيل بن يونس  ، عن سماك  ، عن عكرمة  ، عن ابن عباس  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " رؤيا الأنبياء في المنام وحي  " ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه . 
وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه ، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه . 
( قال يا أبت افعل ما تؤمر   ) أي : امض لما أمرك الله من ذبحي ، ( ستجدني إن شاء الله من الصابرين   ) أي : سأصبر وأحتسب ذلك عند الله - عز وجل - . وصدق ، صلوات الله وسلامه عليه ، فيما وعد ; ولهذا قال الله تعالى : ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا   ) [ مريم : 54 ، 55 ] . 
قال الله تعالى : ( فلما أسلما وتله للجبين   ) أي : فلما تشهدا وذكرا الله تعالى إبراهيم  على الذبح والولد على شهادة الموت . وقيل : ( أسلما ) ، [ يعني ] : استسلما وانقادا ; إبراهيم   امتثل أمر الله ، وإسماعيل  طاعة الله وأبيه . قاله مجاهد  ، وعكرمة   والسدي  ، وقتادة  ،  وابن إسحاق  ، وغيرهم . 
ومعنى ( وتله للجبين   ) أي : صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ، ليكون أهون عليه ، قال ابن عباس  ، ومجاهد   وسعيد بن جبير  ، والضحاك  ، وقتادة   : ( وتله للجبين   ) : أكبه على وجهه . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا سريج  ويونس  قالا حدثنا حماد بن سلمة  ، عن أبي عاصم الغنوي  ، عن  أبي الطفيل  ، عن ابن عباس  أنه قال : لما أمر إبراهيم  بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي ، فسابقه فسبقه إبراهيم  ، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة  ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى  فرماه بسبع حصيات ، وثم تله للجبين ، وعلى إسماعيل  قميص أبيض ، فقال له : يا أبت ، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفنني فيه . فعالجه ليخلعه ، فنودي من خلفه : ( أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا   ) ، فالتفت إبراهيم  فإذا بكبش أبيض أقرن أعين . قال ابن عباس   : لقد رأيتنا نتبع ذلك الضرب من الكباش  . 
وذكر تمام الحديث في " المناسك " بطوله . ثم رواه أحمد  بطوله عن يونس  ، عن حماد بن سلمة  ، عن عطاء بن السائب  ، عن سعيد بن جبير  ، عن ابن عباس  ، فذكر نحوه إلا أنه قال : " إسحاق   " . فعن ابن عباس  في تسمية الذبيح روايتان ، والأظهر عنه إسماعيل  ، لما سيأتي بيانه . 
 [ ص: 29 ] 
وقال محمد بن إسحاق  ، عن الحسن بن دينار  ، عن قتادة  ، عن  جعفر بن إياس  ، عن ابن عباس  في قوله : ( وفديناه بذبح عظيم   ) قال : خرج عليه كبش من الجنة . قد رعى قبل ذلك أربعين خريفا ، فأرسل إبراهيم  ابنه واتبع الكبش ، فأخرجه إلى الجمرة الأولى  ، فرماه بسبع حصيات فأفلته عندها ، فجاء الجمرة الوسطى  فأخرجه عندها ، فرماه بسبع حصيات ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى  ، فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها . ثم أخذه فأتى به المنحر من منى  فذبحه ، فوالذي نفس ابن عباس  بيده لقد كان أول الإسلام ، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد حش ، يعني : يبس  . 
وقال عبد الرزاق   : أخبرنا معمر  ، عن الزهري  ، أخبرنا القاسم  قال : اجتمع  أبو هريرة  وكعب  ، فجعل  أبو هريرة  يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل كعب  يحدث عن الكتب ، فقال  أبو هريرة   : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن لكل نبي دعوة مستجابة ، وإني قد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة  " . فقال له كعب   : أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم . قال : فداك أبي وأمي - أو : فداه أبي وأمي - أفلا أخبرك عن إبراهيم   - عليه السلام - ؟ إنه لما أري ذبح ابنه إسحاق  قال الشيطان : إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا . فخرج إبراهيم  بابنه ليذبحه ، فذهب الشيطان فدخل على سارة  ، فقال : أين ذهب إبراهيم  بابنك ؟ قالت : غدا به لبعض حاجته . قال : لم يغد لحاجة ، وإنما ذهب به ليذبحه . قالت : ولم يذبحه ؟ قال : زعم أن ربه أمره بذلك . قالت : فقد أحسن أن يطيع ربه . فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام : أين يذهب بك أبوك ؟ قال : لبعض حاجته . قال : إنه لا يذهب بك لحاجة ، ولكنه يذهب بك ليذبحك . قال : ولم يذبحني ؟ قال : زعم أن ربه أمره بذلك . قال : فوالله لئن كان الله أمره بذلك ليفعلن . قال : فيئس منه فلحق بإبراهيم  ، فقال : أين غدوت بابنك ؟ قال لحاجة . قال : فإنك لم تغد به لحاجة ، وإنما غدوت به لتذبحه قال : ولم أذبحه ؟ قال : تزعم أن ربك أمرك بذلك . قال : فوالله لئن كان الله أمرني بذلك لأفعلن . قال : فتركه ويئس أن يطاع  . 
وقد رواه ابن جرير  عن يونس  ، عن ابن وهب  ، عن  يونس بن يزيد  ، عن ابن شهاب  ، أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي  أخبره ، أن كعبا  قال  لأبي هريرة   . . . فذكره بطوله ، وقال في آخره : وأوحى الله إلى إسحاق  أني أعطيتك دعوة أستجيب لك فيها . قال إسحاق   : اللهم ، إني أدعو أن تستجيب لي : أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين ، لا يشرك بك شيئا ، فأدخله  [ ص: 30 ] الجنة  . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي  ، حدثنا  الوليد بن مسلم  ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم  عن أبيه ، عن  عطاء بن يسار  ، عن  أبي هريرة   [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي ، وبين أن أختبئ شفاعتي ، فاختبأت شفاعتي ، ورجوت أن تكفر الجم لأمتي ، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي ، إن الله لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له : يا إسحاق ، سل تعطه . فقال : أما والذي نفسي بيده لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان ، اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له وأدخله الجنة  " . 
هذا حديث غريب منكر .  وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم  ضعيف الحديث ، وأخشى أن يكون في الحديث زيادة مدرجة ، وهي قوله : " إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق   " إلى آخره ، والله أعلم . فهذا إن كان محفوظا فالأشبه أن السياق إنما هو عن " إسماعيل   " ، وإنما حرفوه بإسحاق   ; حسدا منهم كما تقدم ، وإلا فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى  من أرض مكة  ، حيث كان إسماعيل  لا إسحاق   [ عليهما السلام ] ، فإنه إنما كان ببلاد كنعان  من أرض الشام   . 
وقوله تعالى : ( وناديناه أن يا إبراهيم . قد صدقت الرؤيا   ) أي : قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح 
وذكر  السدي  وغيره أنه أمر السكين على رقبته فلم تقطع شيئا ، بل حال بينها وبينه صفيحة من نحاس ونودي إبراهيم   - عليه السلام - عند ذلك : ( قد صدقت الرؤيا   ) 
وقوله : ( إنا كذلك نجزي المحسنين   ) أي : هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ، ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا ، كقوله تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا   ) [ الطلاق : 2 ، 3 ] . 
وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل ، خلافا لطائفة من المعتزلة  ، والدلالة من هذه ظاهرة ، لأن الله تعالى شرع لإبراهيم  ذبح ولده ، ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء ، وإنما كان المقصود من شرعه أولا إثابة الخليل  على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ; ولهذا قال تعالى : ( إن هذا لهو البلاء المبين   ) أي : الاختبار الواضح الجلي ; حيث أمر بذبح ولده ، فسارع إلى ذلك مستسلما لأمر الله ، منقادا لطاعته ; ولهذا قال تعالى : ( وإبراهيم الذي وفى   ) [ النجم : 37 ] . 
 [ ص: 31 ] 
وقوله : ( وفديناه بذبح عظيم   ) قال  سفيان الثوري  ، عن جابر الجعفي  ، عن  أبي الطفيل  ، عن علي  ، رضي الله عنه : ( وفديناه بذبح عظيم   ) قال : بكبش أبيض أعين أقرن ، قد ربط بسمرة - قال أبو الطفيل  وجدوه مربوطا بسمرة في ثبير  
وقال الثوري  أيضا ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم  ، عن سعيد بن جبير  ، عن ابن عباس  قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار  ، حدثنا داود العطار  ، عن ابن خثيم  ، عن سعيد بن جبير  ، عن ابن عباس  قال : الصخرة التي بمنى  بأصل ثبير  هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم  فداء ابنه ، هبط عليه من ثبير  كبش أعين أقرن له ثغاء ، فذبحه ، وهو الكبش الذي قربه ابن آدم  فتقبل منه ، فكان مخزونا حتى فدي به إسحاق   . 
وروي أيضا عن سعيد بن جبير  أنه قال : كان الكبش يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير  ، وكان عليه عهن أحمر . 
وعن  الحسن البصري   : أنه كان اسم كبش إبراهيم   : جرير . 
وقال  ابن جريج   : قال  عبيد بن عمير   : ذبحه بالمقام . وقال مجاهد   : ذبحه بمنى  عند المنحر . وقال هشيم  ، عن سيار  ، عن عكرمة   ; أن ابن عباس  كان أفتى الذي جعل عليه نذرا أن ينحر نفسه ، فأمره بمائة من الإبل . ثم قال بعد ذلك : لو كنت أفتيته بكبش لأجزأه أن يذبح كبشا ، فإن الله تعالى قال في كتابه : ( وفديناه بذبح عظيم   ) والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فدي بكبش . وقال الثوري  ، عن رجل ، عن أبي صالح  ، عن ابن عباس  في قوله : ( وفديناه بذبح عظيم   ) قال : وعل . 
وقال محمد بن إسحاق  ، عن  عمرو بن عبيد  ، عن الحسن  أنه كان يقول : ما فدي إسماعيل  إلا بتيس من الأروى ، أهبط عليه من ثبير   . 
وقد قال  الإمام أحمد   : حدثنا سفيان  ، حدثنا منصور  ، عن خاله مسافع  ، عن  صفية بنت شيبة  قالت : أخبرتني امرأة من بني سليم   - ولدت عامة أهل دارنا - أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عثمان بن طلحة   - وقال مرة : إنها سألت عثمان   : لم دعاك النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : قال : " إني كنت رأيت قرني الكبش ، حين دخلت البيت ، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما ، فخمرهما ، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي " . قال سفيان   : لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت ، فاحترقا  . 
 [ ص: 32 ] 
وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل   - عليه السلام - فإن قريشا  توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم  خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل ، إلى أن بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - . 
فصل في ذكر الآثار الواردة عن السلف في أن الذبيح من هو ؟ : 
ذكر من قال : هو إسحاق   [ عليه السلام ] : 
قال حمزة الزيات  ، عن أبي ميسرة  ، رحمه الله ، قال : قال يوسف   - عليه السلام - للملك في وجهه : ترغب أن تأكل معي ، وأنا - والله - يوسف بن يعقوب  نبي الله ، ابن إسحاق  ذبيح الله ، ابن إبراهيم  خليل الله . 
وقال الثوري  ، عن أبي سنان  ، عن ابن أبي الهذيل   : إن يوسف   - عليه السلام - قال للملك كذلك أيضا . 
وقال  سفيان الثوري  ، عن  زيد بن أسلم  ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير  ، عن أبيه قال : " قال موسى   : يا رب ، يقولون : يا إله إبراهيم  وإسحاق  ويعقوب  ، فبم قالوا ذلك ؟ قال : إن إبراهيم  لم يعدل بي شيء قط إلا اختارني عليه . وإن إسحاق  جاد لي بالذبح ، وهو بغير ذلك أجود . وإن يعقوب  كلما زدته بلاء زادني حسن ظن  " . 
وقال شعبة  ، عن أبي إسحاق  ، عن أبي الأحوص  قال : افتخر رجل عند ابن مسعود  فقال : أنا فلان بن فلان ، ابن الأشياخ الكرام . فقال عبد الله   : ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله   [ صلوات الله وسلامه عليهم ]  . 
وهذا صحيح إلى ابن مسعود  ، وكذا روى عكرمة  ، عن ابن عباس  أنه إسحاق   . وعن أبيه العباس  ،  وعلي بن أبي طالب  مثل ذلك . وكذا قال عكرمة  ،  وسعيد بن جبير  ، ومجاهد  ،  والشعبي  ،  وعبيد بن عمير  ، وأبو ميسرة  ، وزيد بن أسلم  ، وعبد الله بن شقيق  ،  والزهري  ، والقاسم بن أبي بزة  ، ومكحول  ، وعثمان بن حاضر  ،  والسدي  ، والحسن  ، وقتادة  ، وأبو الهذيل  ، وابن سابط   . وهو اختيار ابن جرير   . وتقدم روايته عن كعب الأحبار  أنه إسحاق   . 
وهكذا روى ابن إسحاق  عن عبد الله بن أبي بكر  ، عن الزهري  ، عن أبي سفيان بن العلاء  ، بن جارية  ، عن  أبي هريرة  ، عن كعب الأحبار  ، أنه قال : هو إسحاق   . 
وهذه الأقوال - والله أعلم - كلها مأخوذة عن كعب الأحبار  ، فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر  ، رضي الله عنه عن كتبه ، فربما استمع له عمر   - رضي الله عنه - فترخص الناس في استماع ما عنده ، ونقلوا عنه غثها وسمينها ، وليس لهذه الأمة - والله أعلم - حاجة إلى حرف  [ ص: 33 ] واحد مما عنده . وقد حكى البغوي  هذا القول بأنه إسحاق  عن عمر  ، وعلي  ،  وابن مسعود  ، والعباس  ، ومن التابعين عن كعب الأحبار  ،  وسعيد بن جبير  ، وقتادة  ، ومسروق  ، وعكرمة  ، ومقاتل  ،  وعطاء  ،  والزهري  ،  والسدي   - قال : وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس   . وقد ورد في ذلك حديث - لو ثبت لقلنا به على الرأس والعين ، ولكن لم يصح سنده - قال ابن جرير   : 
حدثنا أبو كريب  ، حدثنا  زيد بن حباب  ، عن الحسن بن دينار  ، عن  علي بن زيد بن جدعان  ، عن الحسن  ، عن  الأحنف بن قيس  ، عن  العباس بن عبد المطلب  ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ذكره قال : هو إسحاق   . 
ففي إسناده ضعيفان ، وهما الحسن بن دينار البصري  ، متروك .  وعلي بن زيد بن جدعان  منكر الحديث . وقد رواه ابن أبي حاتم  ، عن أبيه ، عن مسلم بن إبراهيم  ، عن حماد بن سلمة  ، عن  علي بن زيد بن جدعان  ، به مرفوعا . . ثم قال : قد رواه  مبارك بن فضالة  ، عن الحسن  ، عن الأحنف  ، عن العباس  قوله ، وهذا أشبه وأصح . 
[ ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل   - عليه السلام - وهو الصحيح المقطوع به ] . 
قد تقدمت الرواية عن ابن عباس  أنه إسحاق   . قال سعيد بن جبير  ،  وعامر الشعبي  ، ويوسف بن مهران  ، ومجاهد  ،  وعطاء  ، وغير واحد ، عن ابن عباس  ، هو إسماعيل   - عليه السلام - . 
وقال ابن جرير   : حدثني يونس  ، أخبرنا ابن وهب  ، أخبرني عمرو بن قيس  ، عن عطاء بن أبي رباح  عن ابن عباس  أنه قال : المفدى إسماعيل   - عليه السلام - وزعمت اليهود  أنه إسحاق  ، وكذبت اليهود   . 
وقال إسرائيل  ، عن ثور  ، عن مجاهد  ، عن ابن عمر  قال : الذبيح إسماعيل   . 
وقال ابن أبي نجيح  عن مجاهد   : هو إسماعيل   . وكذا قال يوسف بن مهران   . 
وقال الشعبي   : هو إسماعيل   - عليه السلام - وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة   . 
وقال محمد بن إسحاق  ، عن الحسن بن دينار  ،  وعمرو بن عبيد  ، عن  الحسن البصري   : أنه كان لا يشك في ذلك : أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم  إسماعيل   . 
قال ابن إسحاق   : وسمعت  محمد بن كعب القرظي  وهو يقول : إن الذي أمر الله إبراهيم  بذبحه  [ ص: 34 ] من ابنيه إسماعيل   . وإنا لنجد ذلك في كتاب الله ، وذلك أن الله حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم  قال : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين   ) . يقول الله تعالى : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب   ) ، يقول بابن وابن ابن ، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق  وله فيه من [ الله ] الموعد بما وعده ، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل   . 
وقال ابن إسحاق  ، عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي  ، عن  محمد بن كعب القرظي  أنه حدثهم ; أنه ذكر ذلك  لعمر بن عبد العزيز  وهو خليفة إذ كان معه بالشام  ، فقال له عمر   : إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت . ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام  ، كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه ، وكان يرى أنه من علمائهم ، فسأله عمر بن عبد العزيز  عن ذلك - قال محمد بن كعب   : وأنا عند عمر بن عبد العزيز   - فقال له عمر   : أي ابني إبراهيم  أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل  والله يا أمير المؤمنين ، وإن يهود  لتعلم بذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب  ، على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه ، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به ، فهم يجحدون ذلك ، ويزعمون أنه إسحاق  ، بكون إسحاق  أبوهم ، والله أعلم أيهما كان ، وكل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لله - عز وجل -  . 
وقال  عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل  ، رحمه الله : سألت أبي عن الذبيح ، من هو ؟ إسماعيل  أو إسحاق  ؟ فقال : إسماعيل   . ذكره في كتاب الزهد . 
وقال ابن أبي حاتم   : وسمعت أبي يقول : الصحيح أن الذبيح إسماعيل   - عليه السلام - . قال : وروي عن علي  ،  وابن عمر  ،  وأبي هريرة  ،  وأبي الطفيل  ،  وسعيد بن المسيب  ،  وسعيد بن جبير  ، والحسن  ، ومجاهد  ،  والشعبي  ،  ومحمد بن كعب القرظي  ،  وأبي جعفر محمد بن علي  ، وأبي صالح  أنهم قالوا : الذبيح إسماعيل   . 
وقال البغوي  في تفسيره : وإليه ذهب عبد الله بن عمر  ،  وسعيد بن المسيب  ،  والسدي  ، والحسن البصري  ، ومجاهد  ،  والربيع بن أنس  ،  ومحمد بن كعب القرظي  ، والكلبي  ، وهو رواية عن ابن عباس  ، وحكاه أيضا عن  أبي عمرو بن العلاء   . 
وقد روى ابن جرير  في ذلك حديثا غريبا فقال : حدثني محمد بن عمار الرازي  ، حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة  ، حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي  ، عن عبيد الله بن محمد العتبي   - من ولد عتبة بن أبي سفيان   - عن أبيه : حدثني عبد الله بن سعيد  ، عن الصنابحي  قال : كنا عند معاوية بن  [ ص: 35 ] أبي سفيان  ، فذكروا الذبيح : إسماعيل  أو إسحاق  ؟ فقال على الخبير سقطتم ، كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل فقال : يا رسول الله ، عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين . فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له : يا أمير المؤمنين ، وما الذبيحان ؟ فقال : إن عبد المطلب  لما أمر بحفر زمزم  نذر لله إن سهل الله أمرها عليه ، ليذبحن أحد ولده ، قال : فخرج السهم على عبد الله  فمنعه أخواله وقالوا : افد ابنك بمائة من الإبل . ففداه بمائة من الإبل ، وإسماعيل  الثاني  . 
وهذا حديث غريب جدا . وقد رواه الأموي  في مغازيه : حدثنا بعض أصحابنا ، أخبرنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة  ، حدثنا عمر بن عبد الرحمن القرشي  ، حدثنا عبيد الله بن محمد العتبي   - من ولد عتبة بن أبي سفيان   - حدثنا عبد الله بن سعيد  ، حدثنا الصنابحي  قال : حضرنا مجلس معاوية  ، فتذاكر القوم إسماعيل  وإسحاق  ، وذكره . كذا كتبته من نسخة مغلوطة . 
وإنما عول ابن جرير  في اختياره أن الذبيح إسحاق  على قوله تعالى : ( فبشرناه بغلام حليم   ) ، فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق  في قوله : ( وبشروه بغلام عليم   ) [ الذاريات : 28 ] . وأجاب عن البشارة بيعقوب  بأنه قد كان بلغ معه السعي ، أي العمل . ومن الممكن أنه قد كان ولد له أولاد مع يعقوب  أيضا . قال : وأما القرنان اللذان كانا معلقين بالكعبة  فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد الشام   . قال : وقد تقدم أن من الناس من ذهب إلى أنه ذبح إسحاق  هناك . هذا ما اعتمد عليه في تفسيره ، وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم ، بل هو بعيد جدا ، والذي استدل به  محمد بن كعب القرظي  على أنه إسماعيل  أثبت وأصح وأقوى ، والله أعلم . 
وقوله : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين   ) ، لما تقدمت البشارة بالذبيح - وهو إسماعيل   - عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق  ، وقد ذكرت في سورتي هود " و " الحجر " . 
وقوله : ( نبيا ) حال مقدرة ، أي : سيصير منه نبي من الصالحين . 
وقال ابن جرير   : حدثني يعقوب  ، حدثنا  ابن علية  ، عن داود  ، عن عكرمة  قال : قال ابن عباس  ، رضي الله عنهما : الذبيح إسحاق   . قال : وقوله : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين   ) قال : بشر بنبوته . قال : وقوله : ( ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا   ) [ مريم : 53 ] قال : كان هارون  أكبر من موسى  ، ولكن أراد : وهب له نبوته . 
وحدثنا ابن عبد الأعلى  ، حدثنا المعتمر بن سليمان  قال : سمعت داود  يحدث ، عن عكرمة  ، عن ابن عباس  في هذه الآية : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين   ) قال : إنما بشر به نبيا حين فداه الله من الذبح ، ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم  ، حدثنا  سفيان الثوري  ، عن داود  ، عن عكرمة  ،  [ ص: 36 ] عن ابن عباس   : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين   ) قال : بشر به حين ولد ، وحين نبئ . 
وقال  سعيد بن أبي عروبة  ، عن قتادة  في قوله : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين   ) قال : بعد ما كان من أمره ، لما جاد لله بنفسه ، وقال الله : ( وباركنا عليه وعلى إسحاق   ) 
وقوله : ( وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين   ) كقوله تعالى : ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم   ) [ هود : 48 ] . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					