( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف  حقا على المتقين   ( 180 ) فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم   ( 181 ) ) 
( فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم   ( 182 ) ) 
اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين . وقد كان ذلك واجبا على أصح القولين قبل نزول آية المواريث ، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه ، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله ، يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمل منة الموصي ، ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة  قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول :  " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث "  . 
وقال الإمام أحمد   : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية  ، عن يونس بن عبيد  ، عن محمد بن  [ ص: 493 ] سيرين  ، قال : جلس ابن عباس  فقرأ سورة البقرة حتى أتى [ على ] هذه الآية : ( إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين   ) فقال : نسخت هذه الآية . 
وكذا رواه  سعيد بن منصور  ، عن هشيم  ، عن يونس  ، به . ورواه  الحاكم  في مستدركه وقال : صحيح على شرطهما . 
وقال علي بن أبي طلحة  ، عن ابن عباس  في قوله : ( الوصية للوالدين والأقربين   ) قال : كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين ، فأنزل الله آية الميراث فبين ميراث الوالدين ، وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح  ، حدثنا  حجاج بن محمد  ، أخبرنا  ابن جريج  ، وعثمان بن عطاء  ، عن عطاء  ، عن ابن عباس  ، في قوله : ( الوصية للوالدين والأقربين    ) نسختها هذه الآية : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا   ) [ النساء : 7 ] . 
ثم قال ابن أبي حاتم   : وروي عن ابن عمر  وأبي موسى  ،  وسعيد بن المسيب  ، والحسن  ، ومجاهد  ،  وعطاء  ،  وسعيد بن جبير  ،  ومحمد بن سيرين  ، وعكرمة  ، وزيد بن أسلم  ،  والربيع بن أنس  ، وقتادة  ،  والسدي  ،  ومقاتل بن حيان  ،  وطاوس  ،  وإبراهيم النخعي  ، وشريح  ، والضحاك  ،  والزهري   : أن هذه الآية منسوخة نسختها آية الميراث . 
والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي  رحمه الله كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني  أن هذه الآية غير منسوخة ، وإنما هي مفسرة بآية المواريث ، ومعناه : كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين . من قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم   ) [ النساء : 11 ] قال : وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء . قال : ومنهم من قال : إنها منسوخة فيمن يرث ، ثابتة فيمن لا يرث ، وهو مذهب ابن عباس  ، والحسن  ، ومسروق  ،  وطاوس  ، والضحاك  ، ومسلم بن يسار  ،  والعلاء بن زياد   . 
قلت : وبه قال أيضا سعيد بن جبير  ،  والربيع بن أنس  ، وقتادة  ،  ومقاتل بن حيان   . ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاحنا المتأخر ; لأن آية الميراث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية ، لأن " الأقربين " أعم ممن يرث ومن لا يرث ، فرفع حكم من يرث بما عين له ، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى . وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم : أن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت . فأما من يقول : إنها كانت واجبة وهو الظاهر من  [ ص: 494 ] سياق الآية فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث ، كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ; فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين [ الوارثين ] منسوخ بالإجماع . بل منهي عنه للحديث المتقدم :  " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث "  . فآية الميراث حكم مستقل ، ووجوب من عند الله لأهل الفروض وللعصبات ، رفع بها حكم هذه بالكلية . بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم ، يستحب له أن يوصى لهم من الثلث ، استئناسا بآية الوصية وشمولها ، ولما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر  ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه ، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده "  . قال ابن عمر  ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي . 
والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم ، كثيرة جدا . 
وقال عبد بن حميد  في مسنده : أخبرنا عبيد الله  ، عن مبارك بن حسان  ، عن نافع  قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، ثنتان لم يكن لك واحدة منهما : جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك ; لأطهرك به وأزكيك ، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك "  . 
وقوله : ( إن ترك خيرا   ) أي : مالا . قاله ابن عباس  ، ومجاهد  ،  وعطاء  ،  وسعيد بن جبير  ،  وأبو العالية  ،  وعطية العوفي  ، والضحاك  ،  والسدي  ،  والربيع بن أنس  ،  ومقاتل بن حيان  ، وقتادة  ، وغيرهم . 
ثم منهم من قال : الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر  كالوراثة ومنهم من قال : إنما يوصي إذا ترك مالا جزيلا ثم اختلفوا في مقداره ، فقال ابن أبي حاتم   : 
حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري  ، أخبرنا سفيان  ، عن  هشام بن عروة  ، عن أبيه ، قال : قيل لعلي  ، رضي الله عنه : إن رجلا من قريش  قد مات ، وترك ثلاثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص . قال : ليس بشيء ، إنما قال الله : ( إن ترك خيرا   ) . 
قال : وحدثنا  هارون بن إسحاق الهمداني  ، حدثنا  عبدة يعني ابن سليمان  عن  هشام بن عروة  ، عن أبيه : أن عليا  دخل على رجل من قومه يعوده ، فقال له : أوصي ؟ فقال له علي   : إنما قال الله تعالى : ( إن ترك خيرا الوصية   ) إنما تركت شيئا يسيرا ، فاتركه لولدك . 
وقال الحكم بن أبان   : حدثني عن عكرمة  ، عن ابن عباس   : ( إن ترك خيرا   ) قال ابن عباس   : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا  ، قال الحكم   : قال طاوس   : لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا . وقال قتادة   : كان يقال : ألفا فما فوقها . 
وقوله : ( بالمعروف ) أي : بالرفق والإحسان ، كما قال ابن أبي حاتم   : 
 [ ص: 495 ] 
حدثنا الحسن بن أحمد  ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن يسار  ، حدثني سرور بن المغيرة  عن  عباد بن منصور  ، عن الحسن  ، قوله : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت   ) فقال : نعم ، الوصية حق ، على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المنكر  . 
والمراد بالمعروف : أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته ، من غير إسراف ولا تقتير ، كما ثبت في الصحيحين أن سعدا قال : يا رسول الله ، إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : " لا " قال : فبالشطر ؟ قال : " لا " قال : فالثلث ؟ قال :  " الثلث ، والثلث كثير   ; إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس "  . 
وفي صحيح  البخاري   : أن ابن عباس  قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  " الثلث ، والثلث كثير "  . 
وروى الإمام أحمد  ، عن أبي سعيد مولى بني هاشم  ، عن ذيال بن عبيد بن حنظلة  ، سمعت حنظلة بن حذيم بن حنيفة   : أن جده حنيفة  أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل ، فشق ذلك على بنيه ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال حنيفة   : إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل ، كنا نسميها المطيبة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ،  " لا لا لا . الصدقة : خمس ، وإلا فعشر ، وإلا فخمس عشرة ، وإلا فعشرون ، وإلا فخمس وعشرون ، وإلا فثلاثون ، وإلا فخمس وثلاثون ، فإن أكثرت فأربعون "  . 
وذكر الحديث بطوله . 
وقوله : ( فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه   ) يقول تعالى : فمن بدل الوصية وحرفها  ، فغير حكمها وزاد فيها أو نقص ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى ( فإنما إثمه على الذين يبدلونه   ) قال ابن عباس وغير واحد : وقد وقع أجر الميت على الله ، وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك ) إن الله سميع عليم ) أي : قد اطلع على ما أوصى به الميت ، وهو عليم بذلك ، وبما بدله الموصى إليهم . 
وقوله : ( فمن خاف من موص جنفا أو إثما   ) قال ابن عباس  ،  وأبو العالية  ، ومجاهد  ، والضحاك  ،  والربيع بن أنس  ،  والسدي   : الجنف : الخطأ . وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها ، بأن زاد وارثا بواسطة أو وسيلة ، كما إذا أوصى ببيعه الشيء الفلاني محاباة ، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها ، أو نحو ذلك من الوسائل ، إما مخطئا غير عامد ، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر ، أو متعمدا آثما في ذلك ، فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي . ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعا بين مقصود الموصي  [ ص: 496 ] والطريق الشرعي . وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء . ولهذا عطف هذا فبينه على النهي لذلك ، ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل ، والله أعلم . 
وقد قال ابن أبي حاتم   : حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد  ، قراءة ، أخبرني أبي ، عن الأوزاعي  ، قال الزهري   : حدثني عروة  ، عن عائشة  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال :  " يرد من صدقة الحائف في حياته ما يرد من وصية المجنف عند موته "  . 
وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه  ، من حديث العباس بن الوليد  ، به . 
قال ابن أبي حاتم   : وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد   . وهذا الكلام إنما هو عن عروة  فقط . وقد رواه  الوليد بن مسلم  ، عن الأوزاعي  ، فلم يجاوز به عروة   . 
وقال ابن مردويه  أيضا : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم  ، حدثنا إبراهيم بن يوسف  ، حدثنا هشام بن عمار  ، حدثنا عمر بن المغيرة  ، عن  داود بن أبي هند  ، عن عكرمة  ، عن ابن عباس  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  " الحيف في الوصية من الكبائر   "  . 
وهذا في رفعه أيضا نظر . وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق   : 
حدثنا معمر  ، عن أشعث بن عبد الله  ، عن  شهر بن حوشب  ، عن  أبي هريرة  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله ، فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة ، فيعدل في وصيته ، فيختم له بخير عمله ، فيدخل الجنة "  . قال  أبو هريرة   : اقرأوا إن شئتم : ( تلك حدود الله فلا تعتدوها   ) [ البقرة : 229 ] . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					