( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما    ( 105 ) ) 
( واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما   ( 106 ) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما   ( 107 ) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا   ( 108 ) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا   ( 109 ) ) 
يقول تعالى مخاطبا لرسوله محمد  صلى الله عليه وسلم : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق   ) أي : هو حق من الله ، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه . 
وقوله : ( لتحكم بين الناس بما أراك الله   ) احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان ، عليه السلام ، له أن يحكم بالاجتهاد  بهذه الآية ، وبما ثبت في الصحيحين من رواية  هشام بن عروة ،  عن أبيه ، عن  زينب بنت أم سلمة ،  عن أم سلمة ;  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " ألا إنما أنا بشر ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها "  . 
وقال الإمام أحمد   : حدثنا  وكيع ،  حدثنا أسامة بن زيد ،  عن عبد الله بن رافع ،  عن أم سلمة  قالت : جاء رجلان من الأنصار  يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ، ليس عندهما بينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلي ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة " . فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق ، ثم استهما ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه "  . 
وقد رواه أبو داود  من حديث أسامة بن زيد ،  به . وزاد :  " إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم  [ ص: 406 ] ينزل علي فيه "  . 
وقد روى ابن مردويه ،  من طريق العوفي ،  عن ابن عباس  قال : إن نفرا من الأنصار  غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأظن بها رجل من الأنصار ،  فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمة بن أبيرق  سرق درعي ، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان ، وستوجد عنده . فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا : يا نبي الله ، إن صاحبنا بريء . وإن صاحب الدرع فلان ، وقد أحطنا بذلك علما ، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه . فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس ، فأنزل الله : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما    ) [ يقول : احكم بما أنزل الله إليك في الكتاب ] ( واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم [ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ]   ) ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب : ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله [ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا . ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ]   ) يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [ ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ]   ) يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ، ثم قال : ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا   ) يعني : السارق والذين جادلوا عن السارق  . وهذا سياق غريب وكذا ذكر مجاهد ،  وعكرمة ،  وقتادة ،   والسدي ،  وابن زيد  وغيرهم في هذه الآية أنها أنزلت في سارق بني أبيرق  على اختلاف سياقاتهم ، وهي متقاربة . 
وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق  مطولة ، فقال أبو عيسى الترمذي  عند تفسير هذه الآية من جامعه ،  وابن جرير  في تفسيره : 
حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني ،  حدثنا  محمد بن سلمة الحراني ،  حدثنا محمد بن إسحاق ،  عن  عاصم بن عمر بن قتادة ،  عن أبيه ، عن جده  قتادة بن النعمان ،  رضي الله عنه ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق   : بشر  وبشير   ومبشر ،  وكان بشير  رجلا منافقا ، يقول الشعر يهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ينحله بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا ، وقال فلان كذا وكذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث ؟ - أو كما قال الرجل - وقالوا ابن الأبيرق  قالها . قالوا : وكانوا أهل بيت  [ ص: 407 ] حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة  التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام  من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير ، فقدمت ضافطة من الشام ،  فابتاع عمي رفاعة بن زيد  حملا من الدرمك فحطه في مشربة له ، وفي المشربة سلاح : درع وسيف ، فعدي عليه من تحت البيت ، فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح . فلما أصبح أتاني عمي رفاعة  فقال : يا ابن أخي ، إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه . فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا . قال : فتجسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق  استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم . 
قال : وكان بنو أبيرق  قالوا - ونحن نسأل في الدار - : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل  رجلا منا له صلاح وإسلام . فلما سمع لبيد  اخترط سيفه وقال : أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف ، أو لتبينن هذه السرقة . قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فما أنت بصاحبها . فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها . 
فقال لي عمي : يا ابن أخي ، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . قال قتادة   : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد ،  فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه . فليردوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم " سآمر في ذلك " . 
فلما سمع بنو أبيرق  أتوا رجلا منهم يقال له : أسير بن عمرو  فكلموه في ذلك ، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا : يا رسول الله ، إن  قتادة بن النعمان  وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح ، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت . قال قتادة   : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : " عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة ؟ ؟ 
قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان . فلم نلبث أن نزل القرآن : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما   ) بني أبيرق   ( واستغفر الله   ) مما قلت لقتادة   ( إن الله كان غفورا رحيما   . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم [ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما   . يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم   ] ) إلى قوله : ( رحيما   ) أي : لو استغفروا الله لغفر لهم ( ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه   ) إلى قوله : ( إثما مبينا   ) قولهم للبيد : ( ولولا فضل الله عليك ورحمته   ) إلى قوله : ( فسوف نؤتيه أجرا عظيما   ) 
فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة   . 
 [ ص: 408 ] 
فقال قتادة   : لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا ، قد عشا أو عسا - الشك من أبي عيسى   - في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي ، هو في سبيل الله . فعرفت أن إسلامه كان صحيحا ، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية ،  فأنزل الله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا . إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا   ) فلما نزل على سلافة  رماها حسان بن ثابت  بأبيات من شعره ، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ، ثم خرجت به فرمت به في الأبطح ،  ثم قالت : أهديت لي شعر حسان ؟  ما كنت تأتيني بخير  . 
لفظ الترمذي ،  ثم قال الترمذي   : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير  محمد بن سلمة الحراني   : وروى  يونس بن بكير  وغير واحد ، عن محمد بن إسحاق ،  عن  عاصم بن عمر بن قتادة  مرسلا لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده . 
ورواه ابن حاتم  عن هاشم بن القاسم الحراني ،  عن  محمد بن سلمة ،  به ببعضه . 
ورواه ابن المنذر  في تفسيره : حدثنا محمد بن إسماعيل - يعني الصائغ   - حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ،  حدثنا  محمد بن سلمة   - فذكره بطوله . 
ورواه  أبو الشيخ الأصبهاني  في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب  والحسن بن يعقوب ،  كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ،  عن  محمد بن سلمة ،  به . ثم قال في آخره : قال  محمد بن سلمة   : سمع مني هذا الحديث  يحيى بن معين ،   وأحمد بن حنبل ،   وإسحاق بن إسرائيل   . 
وقد روى  الحاكم أبو عبد الله النيسابوري  هذا الحديث في كتابه " المستدرك " عن  أبي العباس الأصم ،  عن  أحمد بن عبد الجبار العطاردي ،  عن  يونس بن بكير ،  عن محمد بن إسحاق   - بمعناه أتم منه ، وفيه الشعر ، ثم قال : وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ،  ولم يخرجاه . 
وقوله : ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله [ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ]   ) الآية ، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم ، ويجاهرون الله بها لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم ; ولهذا قال : ( وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا   ) تهديد لهم ووعيد . 
ثم قال : ( ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا [ فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ]   ) أي : هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدي لهم عند الحكام الذين  [ ص: 409 ] يحكمون بالظاهر - وهم متعبدون بذلك - فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله ، عز وجل ، الذي يعلم السر وأخفى ؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ في ترويج دعواهم ؟ أي : لا أحد يكون يومئذ لهم وكيلا ولهذا قال : ( أم من يكون عليهم وكيلا   ) 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					