[ ص: 225 ]  ( إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء  قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين   ( 112 ) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين   ( 113 ) ) 
( قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين   ( 114 ) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين   ( 115 ) ) 
هذه قصة المائدة ، وإليها تنسب السورة فيقال : " سورة المائدة " . وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى  ، - عليه السلام - ، لما أجاب دعاءه بنزولها ، فأنزلها الله آية ودلالة معجزة باهرة وحجة قاطعة . 
وقد ذكر بعض الأئمة أن قصة المائدة ليست مذكورة في الإنجيل ، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين ، فالله أعلم . 
فقوله تعالى : ( إذ قال الحواريون   ) وهم أتباع عيسى - عليه السلام -   : ( يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك   ) هذه قراءة كثيرين ، وقرأ آخرون : " هل تستطيع ربك " أي : هل تستطيع أن تسأل ربك ( أن ينزل علينا مائدة من السماء   ) . 
والمائدة هي : الخوان عليه طعام . وذكر بعضهم أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوا أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ، ويتقوون بها على العبادة . 
قال : ( اتقوا الله إن كنتم مؤمنين   ) أي : فأجابهم المسيح ، - عليه السلام -  ، قائلا لهم : اتقوا الله ، ولا تسألوا هذا ، فعساه أن يكون فتنة لكم ، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين . 
( قالوا نريد أن نأكل منها   ) أي : نحن محتاجون إلى الأكل منها ( وتطمئن قلوبنا   ) إذا شاهدنا نزولها رزقا لنا من السماء ( ونعلم أن قد صدقتنا   ) أي : ونزداد إيمانا بك وعلما برسالتك ( ونكون عليها من الشاهدين   ) أي : ونشهد أنها آية من عند الله ، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به . 
( قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا   ) قال  السدي   : أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا ، وقال  سفيان الثوري   : يعني يوما نصلي فيه ، وقال قتادة   : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم ، وعن سلمان الفارسي   : عظة لنا ولمن بعدنا . وقيل : كافية لأولنا وآخرنا . 
( وآية منك ) أي : دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء ، وعلى إجابتك دعوتي ، فيصدقوني فيما أبلغه عنك ) وارزقنا ) أي : من عندك رزقا هنيئا بلا كلفة ولا تعب ( وأنت خير الرازقين . قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم   ) أي : فمن كذب بها من أمتك يا عيسى  وعاندها ( فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين   ) أي : من عالمي زمانكم ، كقوله : ( ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب   ) [ غافر : 46 ] ، وكقوله : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار   ) [ النساء : 145 ] .  [ ص: 226 ] 
وقد روى ابن جرير  ، من طريق عوف الأعرابي  ، عن أبي المغيرة القواس  ، عن عبد الله بن عمرو  قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة  ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون . 
ذكر أخبار رويت عن السلف في نزول المائدة على الحواريين   : 
قال أبو جعفر بن جرير  ، حدثنا القاسم  ، حدثنا الحسين  ، حدثني حجاج  ، عن ليث  ، عن عقيل  عن ابن عباس   : أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم  أنه قال لبني إسرائيل   : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له . ففعلوا ، ثم قالوا : يا معلم الخير ، قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ، ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما ، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى   : ( اتقوا الله إن كنتم مؤمنين . قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين . قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين . قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين   ) قال : فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء ، عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة ، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم  . 
كذا رواه ابن جرير  ورواه ابن أبي حاتم  ، عن  يونس بن عبد الأعلى  ، عن ابن وهب  ، عن الليث  ، عن عقيل  ، عن ابن شهاب  ، قال : كان ابن عباس  يحدث ، فذكر نحوه . 
وقال ابن أبي حاتم  أيضا : حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم  ، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد  ، حدثنا  عقيل بن خالد  ، أن ابن شهاب  أخبره عن ابن عباس   ; أن عيسى ابن مريم  قالوا له : ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء ، قال : فنزلت الملائكة بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أحوات ، وسبعة أرغفة ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي  ، حدثنا سفيان بن حبيب  ، حدثنا  سعيد بن أبي عروبة  ، عن قتادة  ، عن خلاس  ، عن  عمار بن ياسر  ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " نزلت المائدة من السماء ، عليها خبز ولحم ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد ، فخانوا وادخروا ورفعوا ، فمسخوا قردة وخنازير " 
وكذا رواه ابن جرير  ، عن الحسن بن قزعة  ثم رواه ابن جرير  ، عن ابن بشار  ، عن ابن أبي  [ ص: 227 ] عدي  ، عن سعيد  ، عن قتادة  ، عن خلاس  ، عن عمار  ، قال : نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة ، فأمروا ألا يخونوا ولا يخبئوا ولا يدخروا . قال : فخان القوم وخبئوا وادخروا ، فمسخهم الله قردة وخنازير . 
وقال ابن جرير   : حدثنا  ابن المثنى  ، حدثنا عبد الأعلى  ، حدثنا داود  ، عن  سماك بن حرب  ، عن رجل من بني عجل  ، قال : صليت إلى جنب  عمار بن ياسر  ، فلما فرغ قال : هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟  قال : قلت : لا قال : إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد ، قال : فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم ما لم تخبؤوا ، أو تخونوا ، أو ترفعوا ، فإن فعلتم فإني معذبكم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، قال : فما مضى يومهم حتى خبؤوا ورفعوا وخانوا ، فعذبوا عذابا لم يعذبه أحد من العالمين . وإنكم - معشر العرب - كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء ، فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم ، تعرفون حسبه ونسبه ، وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم ، ونهاكم أن تكتنزوا الذهب والفضة . وأيم الله ، لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم الله عذابا أليما . 
وقال : حدثنا القاسم  ، حدثنا حسين  ، حدثني حجاج  ، عن أبي معشر  ، عن إسحاق بن عبد الله  ، أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم  ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات ، يأكلون منها ما شاؤوا . قال : فسرق بعضهم منها وقال : " لعلها لا تنزل غدا " . فرفعت . 
وقال العوفي  ، عن ابن عباس   : نزلت على عيسى ابن مريم  والحواريين  ، خوان عليه خبز وسمك ، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا . وقال خصيف  ، عن عكرمة  ومقسم  ، عن ابن عباس   : كانت المائدة سمكة وأرغفة . وقال مجاهد   : هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا . وقال أبو عبد الرحمن السلمي   : نزلت المائدة خبزا وسمكا . وقال عطية العوفي   : المائدة سمك فيه طعم كل شيء . 
وقال  وهب بن منبه   : أنزلها من السماء على بني إسرائيل ، فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة ، فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى ، فكان يقعد عليها أربعة آلاف ، فإذا أكلوا أبدل الله مكان ذلك لمثلهم . فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل . 
وقال  وهب بن منبه   : نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات ، وحشا الله بين أضعافهن البركة ، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ، ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون ، حتى أكل جميعهم وأفضلوا . 
وقال الأعمش  ، عن مسلم  ، عن سعيد بن جبير   : أنزل عليها كل شيء إلا اللحم . 
وقال  سفيان الثوري  ، عن عطاء بن السائب  ، عن زاذان  وميسرة  وجرير  ، عن عطاء  ، عن ميسرة   [ ص: 228 ] قال : كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي بكل طعام إلا اللحم . 
وعن عكرمة   : كان خبز المائدة من الأرز . رواه ابن أبي حاتم   . 
وقال ابن أبي حاتم   : أخبرنا جعفر بن علي  فيما كتب إلي ، حدثنا  إسماعيل بن أبي أويس  ، حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن عبيد الله بن مرداس العبدري - مولى بني عبد الدار   - عن إبراهيم بن عمر  ، عن  وهب بن منبه  ، عن  أبي عثمان النهدي  ، عن سلمان الخير   ; أنه قال : لما سأل الحواريون  عيسى ابن مريم  المائدة ، كره ذلك جدا وقال : اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض ، ولا تسألوا المائدة من السماء ، فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم ، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية ، فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها . فأبوا إلا أن يأتيهم بها ، فلذلك قالوا : ( نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا   ) الآية . 
فلما رأى عيسى  أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها ، قام فألقى عنه الصوف ، ولبس الشعر الأسود ، وجبة من شعر ، وعباءة من شعر ، ثم توضأ واغتسل ، ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله ، فلما قضى صلاته قام قائما مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا ، فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ، وغض بصره ، وطأطأ رأسه خشوعا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه ، فلما رأى ذلك دعا الله فقال : ( اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء   ) فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم وعيسى  يبكي خوفا للشروط التي اتخذها الله عليهم - فيها : أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين - وهو يدعو الله من مكانه ويقول : اللهم اجعلها رحمة ، إلهي لا تجعلها عذابا ، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني ، إلهي اجعلنا لك شكارين ، إلهي أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبا وجزاء ، إلهي اجعلها سلامة وعافية ، ولا تجعلها فتنة ومثلة . 
فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسى  والحواريين  وأصحابه حوله ، يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط ، وخر عيسى  والحواريون  لله سجدا شكرا بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة ، وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمرا عجيبا أورثهم كمدا وغما ، ثم انصرفوا بغيظ شديد وأقبل عيسى   . والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة ، فإذا عليها منديل مغطي . قال عيسى   : من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة ، وأوثقنا بنفسه ، وأحسننا بلاء عند ربه؟ فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ، ونحمد ربنا ، ونذكر باسمه ، ونأكل من رزقه الذي رزقنا . فقال الحواريون : يا روح الله وكلمته ، أنت أولانا بذلك ، وأحقنا  [ ص: 229 ] بالكشف عنها . فقام عيسى  ، - عليه السلام - ، واستأنف وضوءا جديدا ، ثم دخل مصلاه فصلى كذلك ركعات ، ثم بكى بكاء طويلا ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها ، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا . ثم انصرف فجلس إلى السفرة وتناول المنديل ، وقال : " باسم الله خير الرازقين " ، وكشف عن السفرة ، فإذا هو عليها سمكة ضخمة مشوية ، ليس عليها بواسير ، وليس في جوفها شوك ، يسيل السمن منها سيلا قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث ، وعند رأسها خل ، وعند ذنبها ملح ، وحول البقول خمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الآخر ثمرات ، وعلى الآخر خمس رمانات . 
فقال شمعون  رأس الحواريين  لعيسى   : يا روح الله وكلمته ، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات ، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية! فقال شمعون   : وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالا يا ابن الصديقة . فقال عيسى  ، - عليه السلام - : ليس شيء مما ترون من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا ، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة العالية القاهرة ، فقال له : كن . فكان أسرع من طرفة عين ، فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم ، فإنه بديع قادر شاكر . 
فقالوا : يا روح الله وكلمته ، إنا نحب أن ترينا آية في هذه الآية . فقال عيسى   : سبحان الله! أما اكتفيتم بما رأيتم في هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى؟ ثم أقبل عيسى  ، - عليه السلام - ، على السمكة ، فقال : يا سمكة ، عودي بإذن الله حية كما كنت . فأحياها الله بقدرته ، فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية ، تلمظ كما يتلمظ الأسد ، تدور عيناها لها بصيص ، وعادت عليها بواسيرها . ففزع القوم منها وانحازوا . فلما رأى عيسى  ذلك منهم قال : ما لكم تسألون الآية ، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة ، عودي بإذن الله كما كنت . فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول . 
فقالوا لعيسى   : كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ، ثم نحن بعد فقال عيسى   : معاذ الله من ذلك! يبدأ بالأكل من طلبها . فلما رأى الحواريون  وأصحابهم امتناع نبيهم منها ، خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة ، فتحاموها . فلما رأى ذلك عيسى  دعا لها الفقراء والزمنى ، وقال : كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم ، فيكون مهنؤها لكم ، وعقوبتها على غيركم ، وافتتحوا أكلكم باسم الله ، واختموه بحمد الله ، ففعلوا ، فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة ، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ ، ونظر عيسى  والحواريون  فإذا ما عليها كهيئته إذ أنزلت من السماء ، لم ينتقص منها شيء ، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون  [ ص: 230 ] فاستغنى كل فقير أكل منها ، وبرئ كل زمن أكل منها ، فلم يزالوا أغنياء صحاحا حتى خرجوا من الدنيا . 
وندم الحواريون  وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة ، سالت منها أشفارهم ، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات ، قال : فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضا : الأغنياء والفقراء ، والصغار والكبار ، والأصحاء والمرضى ، يركب بعضهم بعضا . فلما رأى ذلك جعلها نوائب ، تنزل يوما ولا تنزل يوما . فلبثوا في ذلك أربعين يوما ، تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها ، حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم . بإذن الله إلى جو السماء ، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم . 
قال : فأوحى الله إلى نبيه عيسى  ، - عليه السلام - ، أن اجعل رزقي المائدة ، لليتامى والفقراء والزمنى دون الأغنياء من الناس ، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء من الناس ، وغمطوا ذلك ، حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس ، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر ، وأدرك الشيطان منهم حاجته ، وقذف وسواسه في قلوب المرتابين حتى قالوا لعيسى : أخبرنا عن المائدة ، ونزولها من السماء أحق ، فإنه قد ارتاب بها بشر منا كثير؟ فقال عيسى  ، - عليه السلام - : هلكتم وإله المسيح! طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم ، فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا ، وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها ، وشككتم فيها ، فأبشروا بالعذاب ، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله . 
وأوحى الله إلى عيسى   : إني آخذ المكذبين بشرطي ، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين . قال فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين ، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير ، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات . 
هذا أثر غريب جدا . قطعه ابن أبي حاتم  في مواضع من هذه القصة ، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل ، والله سبحانه وتعالى أعلم . 
وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل ، أيام عيسى ابن مريم  ، إجابة من الله لدعوته ، وكما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم : ( قال الله إني منزلها عليكم   ) الآية .  [ ص: 231 ] 
وقد قال قائلون : إنها لم تنزل . فروى ليث بن أبي سليم  ، عن مجاهد  في قوله : ( أنزل علينا مائدة من السماء   ) قال : هو مثل ضرب ، ولم ينزل شيء . 
رواه ابن أبي حاتم   وابن جرير   . ثم قال ابن جرير   : حدثني الحارث  ، حدثنا القاسم - هو ابن سلام   - حدثنا حجاج  ، عن  ابن جريج  ، عن مجاهد  قال : مائدة عليها طعام ، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا ، فأبوا أن تنزل عليهم . 
وقال أيضا : حدثنا  ابن المثنى  ، حدثنا محمد بن جعفر  ، حدثنا شعبة  ، عن منصور بن زاذان  ، عن الحسن   ; أنه قال في المائدة : لم تنزل . 
وحدثنا بشر  ، حدثنا يزيد  ، حدثنا سعيد  ، عن قتادة  قال : كان الحسن  يقول : لما قيل لهم : ( فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين   ) قالوا : لا حاجة لنا فيها ، فلم تنزل . 
وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد  والحسن  ، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم ، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله ، وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا ، ولا أقل من الآحاد ، والله أعلم . ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت ، وهو الذي اختاره ابن جرير  ، قال : لأنه تعالى أخبر بنزولها بقوله تعالى : ( إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين   ) قال : ووعد الله ووعيده حق وصدق . 
وهذا القول هو - والله أعلم - الصواب ، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم . وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير  نائب بني أمية  في فتوح بلاد المغرب  ، وجد المائدة هنالك مرصعة باللآلئ وأنواع الجواهر ، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك  ، باني جامع دمشق  ، فمات وهي في الطريق ، فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك  الخليفة بعده ، فرآها الناس وتعجبوا منها كثيرا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة . ويقال إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود  ، عليهما السلام ، فالله أعلم . 
وقد قال  الإمام أحمد   : حدثنا عبد الرحمن  ، حدثنا سفيان  ، عن سلمة بن كهيل  ، عن عمران بن الحكم  ، عن ابن عباس  قال : قالت قريش  للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك قال : " وتفعلون؟ " قالوا : نعم . قال : فدعا ، فأتاه جبريل  فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا ، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة . قال : " بل باب التوبة والرحمة " .  [ ص: 232 ] 
ثم رواه أحمد  وابن مردويه   والحاكم  في مستدركه ، من حديث  سفيان الثوري  ، به . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					