( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق  قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين   ( 90 ) آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين   ( 91 ) فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون   ( 92 ) ) 
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون  وجنوده ؛ فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر  صحبة موسى ،  عليه السلام ، وهم - فيما قيل - ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية ، وقد كانوا استعاروا من القبط حليا كثيرا ، فخرجوا به معهم ، فاشتد حنق فرعون  عليهم ، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه ، فركب وراءهم في أبهة عظيمة ، وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم ، ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته ، فلحقوهم وقت شروق الشمس ، ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون   ) [ الشعراء : 61 ] وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر ، وأدركهم فرعون ، ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان ، وألح أصحاب موسى ، عليه السلام ، عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه ؟ فيقول : إني أمرت أن أسلك هاهنا ، ( كلا إن معي ربي سيهدين   ) [ الشعراء : 62 ]  [ ص: 292 ] فعندما ضاق الأمر اتسع ، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه ، فضربه فانفلق البحر ، ( فكان كل فرق كالطود العظيم   ) [ الشعراء : 63 ] أي : كالجبل العظيم ، وصار اثني عشر طريقا ، لكل سبط واحد . وأمر الله الريح فنشفت أرضه ، ( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى   ) [ طه : 77 ] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك ، ليرى كل قوم الآخرين لئلا يظنوا أنهم هلكوا . وجازت بنو إسرائيل البحر ، فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون  وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى ، وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان ، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم بالرجوع ، وهيهات ولات حين مناص ، نفذ القدر ، واستجيبت الدعوة . وجاء جبريل ،  عليه السلام ، على فرس - وديق حائل - فمر إلى جانب حصان فرعون  فحمحم إليها وتقدم جبريل  فاقتحم البحر ودخله ، فاقتحم الحصان وراءه ، ولم يبق فرعون  يملك من نفسه شيئا ، فتجلد لأمرائه ، وقال لهم : ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا ، فاقتحموا كلهم عن آخرهم وميكائيل  في ساقتهم ، لا يترك أحدا منهم ، إلا ألحقه بهم . فلما استوسقوا فيه وتكاملوا ، وهم أولهم بالخروج منه ، أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم ، فارتطم عليهم ، فلم ينج منهم أحد ، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم ، وتراكمت الأمواج فوق فرعون ،  وغشيته سكرات الموت ، فقال وهو كذلك : ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين   ) فآمن حيث لا ينفعه الإيمان ، ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين  فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون   ) [ غافر : 84 ، 85 ] . 
وهكذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال : ( آلآن وقد عصيت قبل   ) أي : أهذا الوقت تقول ، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه ؟ ( وكنت من المفسدين   ) أي : في الأرض الذين أضلوا الناس ، ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون   ) [ القصص : 41 ] 
وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون  من قوله هذا في حاله ذاك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله ؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل  ، رحمه الله : 
حدثنا سليمان بن حرب  ، حدثنا حماد بن سلمة  ، عن علي بن زيد  ، عن يوسف بن مهران  ، عن ابن عباس  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " لما قال فرعون   : ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل   ) قال : قال لي جبريل   : [ يا محمد   ] لو رأيتني وقد أخذت [ حالا ] من حال البحر ، فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة "  [ ص: 293 ] 
ورواه الترمذي ،   وابن جرير  ،  وابن أبي حاتم  في تفاسيرهم ، من حديث حماد بن سلمة  ، به وقال الترمذي   : حديث حسن . 
وقال  أبو داود الطيالسي   : حدثنا شعبة ،  عن عدي بن ثابت   وعطاء بن السائب  ، عن سعيد بن جبير  ، عن ابن عباس  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال لي جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر ، فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة "  . وقد رواه أبو عيسى الترمذي  أيضا ،  وابن جرير  أيضا ، من غير وجه ، عن شعبة ،  به وقال الترمذي   : حسن غريب صحيح . 
ووقع في رواية عند ابن جرير  ، عن  محمد بن المثنى  ، عن غندر ،  عن شعبة ،  عن عطاء  وعدي ،  عن سعيد ،  عن ابن عباس  ، رفعه أحدهما - وكأن الآخر لم يرفعه ، فالله أعلم . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبو سعيد الأشج  ، حدثنا أبو خالد الأحمر  ، عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي  ، عن سعيد بن جبير  ، عن ابن عباس  قال : لما أغرق الله فرعون ، أشار بأصبعه ورفع صوته : ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل   ) قال : فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه ، فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه  . 
وكذا رواه ابن جرير  ، عن سفيان بن وكيع  ، عن أبي خالد  ، به موقوفا 
وقد روي من حديث  أبي هريرة  أيضا ، فقال ابن جرير   : 
حدثنا ابن حميد  ، حدثنا حكام ،  عن عنبسة - هو ابن سعيد   - عن كثير بن زاذان  ، عن أبي حازم  ، عن  أبي هريرة  ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال لي جبريل : يا محمد ، لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه ، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له " يعني : فرعون  
كثير بن زاذان  هذا قال ابن معين   : لا أعرفه ، وقال أبو زرعة  وأبو حاتم   : مجهول ، وباقي رجاله ثقات .  [ ص: 294 ] 
وقد أرسل هذا الحديث جماعة من السلف : قتادة ،   وإبراهيم التيمي  ،  وميمون بن مهران   . ونقل عن الضحاك بن قيس   : أنه خطب بهذا للناس ، فالله أعلم . 
وقوله : ( فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية   ) قال ابن عباس  وغيره من السلف : إن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون ،  فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده بلا روح ، وعليه درعه المعروفة [ به ] على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع ، ليتحققوا موته وهلاكه ؛ ولهذا قال تعالى : ( فاليوم ننجيك   ) أي : نرفعك على نشز من الأرض ، ( ببدنك   ) قال مجاهد   : بجسدك . وقال الحسن   : بجسم لا روح فيه . وقال  عبد الله بن شداد   : سويا صحيحا ، أي : لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه . وقال أبو صخر   : بدرعك 
وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها ، كما تقدم ، والله أعلم . 
وقوله : ( لتكون لمن خلفك آية   ) أي : لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك ، وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده ، وأنه لا يقوم لغضبه شيء ؛ ولهذا قرأ بعض السلف : " لتكون لمن خلقك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون " أي : لا يتعظون بها ، ولا يعتبرون . وقد كان [ إهلاك فرعون وملئه ] يوم عاشوراء ، كما قال  البخاري   : 
حدثنا  محمد بن بشار  ، حدثنا غندر ،  حدثنا شعبة ،  عن أبي بشر  ، عن سعيد بن جبير  ، عن ابن عباس  قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ،  واليهود  تصوم يوم عاشوراء فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى  على فرعون   . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أنتم أحق بموسى منهم ، فصوموه " 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					