[ ص: 47 ]  ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا    ( 4 ) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا   ( 5 ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا   ( 6 ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا   ( 7 ) عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا   ( 8 ) ) 
يقول تعالى : إنه قضى إلى بني إسرائيل  في الكتاب ، أي : تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا ، أي : يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كما قال تعالى : ( وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين   ) [ الحجر : 66 ] أي : تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به . 
وقوله : ( فإذا جاء وعد أولاهما   ) أي : أولى الإفسادتين ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد   ) أي : سلطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد ، أي : قوة وعدة وسلطة شديدة ( فجاسوا خلال الديار   ) أي : تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم ، أي : بينها ووسطها ، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا ( وكان وعدا مفعولا   ) 
وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم : من هم ؟ فعن ابن عباس  وقتادة   : أنه جالوت الجزري  وجنوده ، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك . وقتل داود  جالوت  ؛ ولهذا قال : ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا   ) 
وعن سعيد بن جبير   : أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده  . وعنه أيضا ، وعن غيره : أنه بختنصر ملك بابل . 
وقد ذكر ابن أبي حاتم  له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال ، إلى أن ملك البلاد ، وأنه كان فقيرا مقعدا ضعيفا يستعطي الناس ويستطعمهم ، ثم آل به الحال إلى ما آل ، وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس  ، فقتل بها خلقا كثيرا من بني إسرائيل   . 
وقد روى ابن جرير  في هذا المكان حديثا أسنده عن حذيفة  مرفوعا مطولا وهو حديث موضوع لا محالة ، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث! والعجب كل العجب كيف راج عليه مع إمامته وجلالة قدره! وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي  ، رحمه الله ، بأنه موضوع مكذوب ، وكتب ذلك على حاشية الكتاب . 
وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها ؛ لأن منها ما هو موضوع ، من وضع [ بعض ] زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ، ونحن في غنية عنها ، ولله الحمد . وفيما قص الله تعالى علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله ، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم . وقد أخبر الله تعالى أنهم لما بغوا وطغوا سلط الله عليهم عدوهم ، فاستباح بيضتهم ، وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم ، جزاء وفاقا ، وما ربك بظلام للعبيد ؛ فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء .  [ ص: 48 ] 
وقد روى ابن جرير   : حدثني  يونس بن عبد الأعلى  ، أخبرنا ابن وهب  ، أخبرني  سليمان بن بلال  ، عن يحيى بن سعيد  قال : سمعت  سعيد بن المسيب  يقول : ظهر بختنصر  على الشام  ، فخرب بيت المقدس  وقتلهم ، ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبا ، فسألهم : ما هذا الدم ؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا ، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر . قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن  . 
وهذا صحيح إلى  سعيد بن المسيب  ، وهذا هو المشهور ، وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم ، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة ، وأخذ معه خلقا منهم أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم ، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها . ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه ، لجاز كتابته وروايته ، والله أعلم . 
ثم قال تعالى : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها   ) أي : فعليها ، كما قال تعالى : ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها   ) [ فصلت : 46 ] . 
وقوله : ( فإذا جاء وعد الآخرة   ) أي : المرة الآخرة أي : إذا أفسدتم المرة الثانية وجاء أعداؤكم ( ليسوءوا وجوهكم   ) أي : يهينوكم ويقهروكم ( وليدخلوا المسجد   ) أي بيت المقدس   ( كما دخلوه أول مرة   ) أي : في التي جاسوا فيها خلال الديار ) وليتبروا ) أي : يدمروا ويخربوا ) ما علوا ) أي : ما ظهروا عليه ( تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم   ) أي : فيصرفهم عنكم ( وإن عدتم عدنا   ) أي : متى عدتم إلى الإفساد ) عدنا ) إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال ؛ ولهذا قال [ تعالى ] ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا   ) أي : مستقرا ومحصرا وسجنا لا محيد لهم عنه . 
قال ابن عباس   [ رضي الله عنهما ] : ( حصيرا ) أي : سجنا . 
وقال مجاهد   : يحصرون فيها . وكذا قال غيره . 
وقال الحسن   : فراش ومهاد . 
وقال قتادة : قد عاد بنو إسرائيل ،  فسلط الله عليهم هذا الحي - محمد  صلى الله عليه وسلم وأصحابه - يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					