القول في تأويل قوله ( ومن دخله كان آمنا   )  
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . 
فقال بعضهم : تأويله : الخبر عن أن كل من جر في الجاهلية جريرة ثم عاذ بالبيت ،  لم يكن بها مأخوذا . 
ذكر من قال ذلك : 
7454 - حدثنا بشر  قال : حدثنا يزيد  قال : حدثنا سعيد ،  عن قتادة ،  قوله : " ومن دخله كان آمنا   " وهذا كان في الجاهلية ، كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ، ثم لجأ إلى حرم الله ، لم يتناول ولم يطلب . فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله ، من سرق فيه قطع ، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد ، ومن قتل فيه قتل وعن قتادة   : أن الحسن  كان يقول : إن الحرم  لا يمنع من حدود الله   . لو أصاب حدا في غير الحرم ، فلجأ إلى الحرم ، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد  . 
ورأى قتادة  ما قاله الحسن   . 
7455 - حدثنا الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا عبد الرزاق  قال : أخبرنا معمر ،  عن قتادة  قوله : " ومن دخله كان آمنا   " قال : كان ذلك في الجاهلية .  [ ص: 30 ] فأما اليوم ، فإن سرق فيه أحد قطع ، وإن قتل فيه قتل ، ولو قدر فيه على المشركين قتلوا  . 
7456 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي  قال : حدثنا عبد السلام بن حرب  قال : حدثنا خصيف ،  عن مجاهد  في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم   قال : يؤخذ ، فيخرج من الحرم ،  ثم يقام عليه الحد . يقول : القتل  . 
7457 - حدثنا  محمد بن المثنى  قال : حدثنا محمد بن جعفر ،  عن شعبة ،  عن حماد ،  مثل قول مجاهد   . 
7458 - حدثنا أبو كريب  وأبو السائب  قالا حدثنا ابن إدريس  قال : أخبرنا هشام ،  عن الحسن   وعطاء  في الرجل يصيب الحد ويلجأ إلى الحرم يخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد  . 
قال أبو جعفر   : فتأويل الآية على قول هؤلاء : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ،  والذي دخله من الناس كان آمنا بها في الجاهلية . 
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن يدخله يكن آمنا بها بمعنى الجزاء ، كنحو قول القائل . "من قام لي أكرمته " ، بمعنى : من يقم لي أكرمه . وقالوا : هذا أمر كان في الجاهلية ، كان الحرم  مفزع كل خائف . وملجأ كل جان ، لأنه لم يكن يهاج به ذو جريرة ، ولا يعرض الرجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء . قالوا : وكذلك هو في الإسلام ، لأن الإسلام زاده تعظيما وتكريما . 
ذكر من قال ذلك : 
7459 - حدثني  محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب  قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد  قال : حدثنا خصيف  قال : حدثنا مجاهد  قال : قال ابن عباس   : إذا أصاب الرجل الحد : قتل أو سرق ، فدخل الحرم ،  لم يبايع ولم يؤو ، حتى يتبرم فيخرج من الحرم ،  فيقام عليه الحد . قال . فقلت  لابن عباس   : ولكني لا أرى  [ ص: 31 ] ذلك! أرى أن يؤخذ برمته ، ثم يخرج من الحرم ،  فيقام عليه الحد ، فإن الحرم  لا يزيده إلا شدة  . 
7460 - حدثنا أبو كريب  وأبو السائب  قالا حدثنا ابن إدريس  قال : حدثنا عبد الملك ،  عن عطاء  قال : أخذ ابن الزبير  سعدا مولى معاوية - وكان في قلعة بالطائف   - فأرسل إلى ابن عباس  من يشاوره فيهم : إنهم لنا عدو . فأرسل إليه ابن عباس   : لو وجدت قاتل أبي لم أعرض له . قال : فأرسل إليه ابن الزبير   : ألا نخرجهم من الحرم ؟  قال : فأرسل إليه ابن عباس   : أفلا قبل أن تدخلهم الحرم ؟ زاد أبو السائب في حديثه : فأخرجهم فصلبهم ، ولم ينظر إلى قول ابن عباس   . 
7461 - حدثني يعقوب بن إبراهيم  قال : حدثنا هشيم  قال : أخبرنا حجاج ،  عن عطاء ،  عن ابن عباس  قال : من أحدث حدثا في غير الحرم ،  ثم لجأ إلى الحرم لم يعرض له ، ولم يبايع ، ولم يكلم ، ولم يؤو حتى يخرج من الحرم . فإذا خرج من الحرم ، أخذ فأقيم عليه الحد . قال : ومن أحدث في الحرم حدثا أقيم عليه .  [ ص: 32 ] 
7462 - حدثنا أبو كريب  قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي ،  عن ابن أبي حبيبة ،  عن  داود بن حصين ،  عن عكرمة ،  عن ابن عباس  أنه قال : من أحدث حدثا ثم استجار بالبيت فهو آمن ، وليس للمسلمين أن يعاقبوه على شيء إلى أن يخرج . فإذا خرج أقاموا عليه الحد  . 
7463 - حدثني يعقوب  قال : حدثنا هشيم  قال : حدثنا حجاج ،  عن عطاء  عن ابن عمر  قال : لو وجدت قاتل عمر  في الحرم ،  ما هجته  . 
7464 - حدثنا أبو كريب  وأبو السائب  قالا : حدثنا ابن إدريس  قال : حدثنا ليث ،  عن عطاء   : أن الوليد بن عتبة  أراد أن يقيم الحد في الحرم ،  فقال له  عبيد بن عمير   : لا تقم عليه الحد في الحرم إلا أن يكون أصابه فيه  . 
7465 - حدثنا أبو كريب  وأبو السائب  قالا حدثنا ابن إدريس  قال : أخبرنا مطرف ،  عن عامر  قال : إذا أصاب الحد ثم هرب إلى الحرم ،  فقد أمن ، فإذا أصابه في الحرم أقيم عليه الحد في الحرم  . 
7466 - حدثنا ابن بشار  قال : حدثنا مؤمل  قال : حدثنا سفيان ،  عن فراس ،  عن الشعبي  قال : من أصاب حدا في الحرم  أقيم عليه في الحرم . ومن أصابه خارجا من الحرم ثم دخل الحرم ، لم يكلم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم ، فيقام عليه  . 
7467 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي  قال : حدثنا عبد السلام بن حرب  قال : حدثنا عطاء بن السائب ،  عن سعيد بن جبير  وعن عبد الملك ،  عن عطاء بن أبي رباح  في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم  قال : لا يبيعه أهل مكة  ولا يشترون منه ، ولا يسقونه ولا يطعمونه ولا يؤونه ، عد أشياء كثيرة حتى  [ ص: 33 ] يخرج من الحرم ، فيؤخذ بذنبه  . 
7468 - حدثت عن عمار  قال : : حدثنا ابن أبي جعفر ،  عن أبيه ، عن عطاء بن السائب ،  عن سعيد بن جبير ،  عن ابن عباس   : أن الرجل إذا أصاب حدا ثم دخل الحرم  ، أنه لا يطعم ، ولا يسقى ، ولا يؤوى ، ولا يكلم ، ولا ينكح ، ولا يبايع . فإذا خرج منه أقيم عليه الحد  . 
7469 - حدثني المثنى  قال : حدثني حجاج  قال : : حدثنا حماد ،  عن  عمرو بن دينار ،  عن ابن عباس  قال : إذا أحدث الرجل حدثا ثم دخل الحرم ،  لم يؤو ، ولم يجالس ، ولم يبايع ، ولم يطعم ، ولم يسق ، حتى يخرج من الحرم  . 
7470 - حدثني المثنى  قال : حدثنا حجاج  قال : حدثنا حماد ،  عن عطاء بن السائب ،  عن سعيد بن جبير ،  عن ابن عباس ،  مثله . 
7471 - حدثنا محمد بن الحسين  قال : حدثنا أحمد بن المفضل  قال : حدثنا أسباط ،  عن  السدي   : أما قوله : " ومن دخله كان آمنا   " ، فلو أن رجلا قتل رجلا ثم أتى الكعبة فعاذ بها ، ثم لقيه أخو المقتول لم يحل له أبدا أن يقتله  . 
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن دخله يكن آمنا من النار . 
ذكر من قال ذلك : 
7472 - حدثنا علي بن مسلم  قال : حدثنا أبو عاصم  قال : أخبرنا رزيق بن مسلم المخزومي  قال : حدثنا زياد بن أبي عياش ،  عن يحيى بن جعدة  في قوله : " ومن دخله كان آمنا   " قال : آمنا من النار  .  [ ص: 34 ] 
قال أبو جعفر   : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول ابن الزبير  ومجاهد  والحسن ،  ومن قال : "معنى ذلك : ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذا به ، كان آمنا ما كان فيه ، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحد ، إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه . وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه " . 
فتأويل الآية إذا : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ،  ومن يدخله من الناس مستجيرا به ، يكن آمنا مما استجار منه ما كان فيه ، حتى يخرج منه . 
فإن قال قائل : وما منعك من إقامة الحد عليه فيه ؟ 
قيل : لاتفاق جميع السلف على أن من كانت جريرته في غيره ثم عاذ به ،  [ ص: 35 ] فإنه لا يؤخذ بجريرته فيه . وإنما اختلفوا في صفة إخراجه منه لأخذه بها . 
فقال بعضهم : صفة ذلك : منعه المعاني التي يضطر مع منعه وفقده إلى الخروج منه . 
وقال آخرون : لا صفة لذلك غير إخراجه منه بما أمكن إخراجه من المعاني التي توصل إلى إقامة حد الله معها . 
فلذلك قلنا : غير جائز إقامة الحد عليه فيه إلا بعد إخراجه منه . فأما من أصاب الحد فيه ، فإنه لا خلاف بين الجميع في أنه يقام عليه فيه الحد . فكلتا المسألتين أصل مجمع على حكمهما على ما وصفنا . 
فإن قال لنا قائل : وما دلالتك على أن إخراج العائذ بالبيت إذا أتاه مستجيرا به من جريرة جرها   . أو من حد أصابه من الحرم ،  جائز لإقامة الحد عليه ، وأخذه بالجريرة ، وقد أقررت بأن الله عز وجل قد جعل من دخله آمنا ، ومعنى "الآمن " غير معنى "الخائف " ؟ فبما هما فيه مختلفان ؟ . 
قيل : قلنا ذلك ، لإجماع الجميع من المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة ، على أن إخراج العائذ به من جريرة أصابها أو فاحشة أتاها وجبت عليه بها عقوبة منه ببعض معاني الإخراج لأخذه بما لزمه ، واجب على إمام المسلمين وأهل الإسلام معه . 
وإنما اختلفوا في السبب الذي يخرج به منه . 
فقال بعضهم : السبب الذي يجوز إخراجه به منه : ترك جميع المسلمين مبايعته وإطعامه وسقيه وإيواءه وكلامه ، وما أشبه ذلك من المعاني التي لا قرار للعائذ به  [ ص: 36 ] فيه مع بعضها ، فكيف مع جميعها ؟ 
وقال آخرون منهم : بل إخراجه لإقامة ما لزمه من العقوبة ، واجب بكل معاني الإخراج . 
فلما كان إجماعا من الجميع على أن حكم الله - فيمن عاذ بالبيت  من حد أصابه أو جريرة جرها - إخراجه منه ، لإقامة ما فرض الله على المؤمنين إقامته عليه ، ثم اختلفوا في السبب الذي يجوز إخراجه به منه كان اللازم لهم ولإمامهم إخراجه منه بأي معنى أمكنهم إخراجه منه ، حتى يقيموا عليه الحد الذي لزمه خارجا منه إذا كان لجأ إليه من خارج ، على ما قد بينا قبل . 
وبعد ، فإن الله عز وجل لم يضع حدا من حدوده عن أحد من خلقه من أجل بقعة وموضع صار إليها من لزمه ذلك ، . وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : 
7473 - " إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة  " . 
ولا خلاف بين جميع الأمة أن عائذا لو عاذ من عقوبة لزمته بحرم النبي صلى الله عليه وسلم ، يؤاخذ بالعقوبة فيه . ولولا ما ذكرت من إجماع السلف على أن حرم إبراهيم  لا يقام فيه على من عاذ به من عقوبة لزمته حتى يخرج منه ما لزمه ، لكان أحق البقاع أن تؤدى فيه فرائض الله التي ألزمها عباده من قتل أو غيره ، أعظم البقاع إلى الله ، كحرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حرم الله لإقامة الحد ، لما ذكرنا من فعل الأمة ذلك وراثة .  [ ص: 37 ] 
فمعنى الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا : ومن دخله كان آمنا ما كان فيه . فإذ كان ذلك كذلك ، فمن لجأ إليه من عقوبة لزمته عائذا به ، فهو آمن ما كان به حتى يخرج منه ، وإنما يصير إلى الخوف بعد الخروج أو الإخراج منه ، فحينئذ هو غير داخله ولا هو فيه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					