القول في تأويل قوله ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك  يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا   ( 60 ) ) 
قال أبو جعفر   : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ألم تر يا محمد  بقلبك فتعلم إلى الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك من الكتاب ، وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قلبك من الكتب يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى الطاغوت يعني إلى : من يعظمونه ، ويصدرون عن قوله ، ويرضون بحكمه من دون حكم الله ، وقد أمروا أن يكفروا به ، يقول : وقد أمرهم الله أن يكذبوا بما جاءهم به الطاغوت الذي يتحاكون إليه ، فتركوا أمر الله واتبعوا أمر الشيطان . ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا  ، يعني : أن الشيطان يريد أن يصد هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الحق والهدى فيضلهم عنها ضلالا بعيدا يعني : فيجور بهم عنها جورا شديدا . 
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلا من اليهود  في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهان ليحكم بينهم ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم .  [ ص: 508 ] 
ذكر من قال ذلك : 
9891 - حدثني  محمد بن المثنى  قال : حدثنا عبد الوهاب  قال : حدثنا داود  ، عن عامر  في هذه الآية : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت  قال : كان بين رجل من اليهود  ورجل من المنافقين خصومة فكان المنافق يدعو إلى اليهود ؛  لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة ، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين ؛ لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة . فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة ،  فأنزل الله فيه هذه الآية : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك   " حتى بلغ " ويسلموا تسليما   " . 
9892 - حدثنا  ابن المثنى  قال : حدثنا عبد الأعلى  قال : حدثنا داود  ، عن عامر  في هذه الآية : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك   : فذكر نحوه . وزاد فيه : فأنزل الله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك   " يعني المنافقين " وما أنزل من قبلك " يعني اليهود   " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " يقول : إلى الكاهن " وقد أمروا أن يكفروا به   " أمر هذا في كتابه ، وأمر هذا في كتابه أن يكفر بالكاهن . 
9893 - حدثني يعقوب بن إبراهيم  قال : حدثنا  ابن علية  ، عن داود  ، عن الشعبي  قال : كانت بين رجل ممن يزعم أنه مسلم وبين رجل من اليهود  خصومة ، فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك أو قال : إلى النبي ؛ لأنه قد علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأخذ الرشوة في الحكم ، فاختلفا ، فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة  قال : فنزلت : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك "  يعني : الذي من الأنصار  ، " وما أنزل من قبلك   " يعني : اليهودي " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت   " : إلى الكاهن " وقد أمروا  [ ص: 509 ] أن يكفروا به " يعني : أمر هذا في كتابه ، وأمر هذا في كتابه . وتلا " ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا   " . وقرأ : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم   " إلى " ويسلموا تسليما   " . 
9894 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى  قال : حدثنا المعتمر بن سليمان  ، عن أبيه قال : زعم حضرمي أن رجلا من اليهود  كان قد أسلم ، فكانت بينه وبين رجل من اليهود  مدارأة في حق ، فقال اليهودي له : انطلق إلى نبي الله ، فعرف أنه سيقضي عليه ، قال : فأبى ، فانطلقا إلى رجل من الكهان فتحاكما إليه . قال الله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت   "  [ ص: 510 ]  . 
9895 - حدثنا بشر بن معاذ  قال : حدثنا يزيد  قال : حدثنا سعيد  ، عن قتادة  قوله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك   : الآية حتى بلغ " ضلالا بعيدا   " ، ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين : رجل من الأنصار  يقال له بشر  ، وفي رجل من اليهود  في مدارأة كانت بينهما في حق ، فتدارءا بينهما ، فتنافرا إلى كاهن بالمدينة  يحكم بينهما ، وتركا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعاب الله - عز وجل - ذلك . وذكر لنا أن اليهودي كان يدعوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحكم بينهما ، وقد علم أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لن يجور عليه . فجعل الأنصاري يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم ، ويدعوه إلى الكاهن ، فأنزل الله - تبارك وتعالى - ما تسمعون ، فعاب ذلك على الذي يزعم أنه مسلم ، وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب ، فقال : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك "  إلى قوله : " صدودا " . 
9896 - حدثنا محمد بن الحسين  قال : حدثنا أحمد بن مفضل  قال : حدثنا أسباط  ، عن  السدي   : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " قال : كان ناس من اليهود  قد أسلموا ونافق بعضهم ، وكانت قريظة  والنضير  في الجاهلية إذا قتل الرجل من بني النضير  قتلته بنو قريظة ،  قتلوا به منهم . فإذا قتل الرجل من بني قريظة  قتلته النضير  أعطوا ديته ستين وسقا من تمر . فلما أسلم ناس من بني قريظة  والنضير ،  قتل رجل من بني النضير  رجلا من بني قريظة ،  فتحاكموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النضيري : يا رسول الله إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية فنحن نعطيهم اليوم ذلك . فقالت قريظة   : لا ولكنا إخوانكم في النسب والدين ، ودماؤنا مثل دمائكم ، ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية ، فقد جاء الله بالإسلام ، فأنزل الله يعيرهم بما فعلوا فقال : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس   ) [ سورة المائدة : 54 ] ، فعيرهم ، ثم ذكر قول النضيري   : كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقا ، ونقتل منهم ولا يقتلونا ، فقال ( أفحكم الجاهلية يبغون   ) [ سورة المائدة : 50 ] . وأخذ النضيري  فقتله بصاحبه ، فتفاخرت النضير  وقريظة ،  فقالت النضير   : نحن أكرم منكم ، وقالت قريظة   : نحن أكرم منكم ، ودخلوا المدينة  إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي  ، فقال المنافق من قريظة  والنضير   : انطلقوا إلى أبي بردة  ينفر بيننا .  [ ص: 511 ] وقال المسلمون من قريظة  والنضير   : لا بل النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفر بيننا ، فتعالوا إليه ، فأبى المنافقون ، وانطلقوا إلى أبي بردة  فسألوه ، فقال : أعظموا اللقمة يقول : أعظموا الخطر ، فقالوا : لك عشرة أوساق . قال : لا بل مئة وسق ديتي ، فإني أخاف أن أنفر النضير  فتقتلني قريظة ،  أو أنفر قريظة  فتقتلني النضير  ، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوساق ، وأبى أن يحكم بينهم ، فأنزل الله - عز وجل - : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت   " وهو أبو بردة   " وقد أمروا أن يكفروا به   " إلى قوله : " ويسلموا تسليما   " . 
وقال آخرون : الطاغوت في هذا الموضع هو كعب بن الأشرف   . 
ذكر من قال ذلك : 
9897 - حدثني محمد بن سعد  قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس  قوله : يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به   : والطاغوت رجل من اليهود  كان يقال له : كعب بن الأشرف  ، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا : بل نحاكمكم إلى كعب  فذلك قوله : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " الآية  . 
9798 - حدثني محمد بن عمرو  قال : حدثنا أبو عاصم  ، عن عيسى  ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد  في قول الله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك  قال : تنازع رجل من المنافقين ورجل من  [ ص: 512 ] اليهود ،  فقال المنافق : اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف  ، وقال اليهودي : اذهب بنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الله - تبارك وتعالى - : " ألم تر إلى الذين يزعمون   " الآية ، والتي تليها فيهم أيضا  . 
9899 - حدثني المثنى  قال : حدثنا أبو حذيفة  قال : حدثنا شبل  ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد   : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك   " ، فذكر مثله إلا أنه قال : وقال اليهودي : اذهب بنا إلى محمد   . 
9900 - حدثنا المثنى  قال : حدثنا إسحاق  قال : حدثنا ابن أبي جعفر  ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس  في قوله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك "  إلى قوله : " ضلالا بعيدا " قال : كان رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما خصومة أحدهم مؤمن والآخر منافق ، فدعاه المؤمن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف  ، فأنزل الله : ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا   )  . 
9901 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني حجاج  ، عن  ابن جريج  ، عن مجاهد  قوله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت  قال : تنازع رجل من المؤمنين ورجل من اليهود ،  فقال اليهودي : اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف  ، وقال المؤمن : اذهب بنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك  إلى قوله : صدودا . قال  ابن جريج   : يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، قال : القرآن . وما أنزل من قبلك ، قال : التوراة . قال :  [ ص: 513 ] يكون بين المسلم والمنافق الحق ، فيدعوه المسلم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحاكمه إليه ، فيأبى المنافق ويدعوه إلى الطاغوت . قال  ابن جريج   : قال مجاهد   : الطاغوت كعب بن الأشرف   . 
9902 - حدثت عن الحسين بن الفرج  قال : سمعت أبا معاذ  يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان  قال : سمعت الضحاك  يقول في قوله : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت   " : هو كعب بن الأشرف   . 
وقد بينا معنى الطاغوت في غير هذا الموضع ، فكرهنا إعادته . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					