[ ص: 22 ] القول في تأويل قوله ( يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة    ) 
قال أبو جعفر   : يقول - تعالى ذكره - : يحكم بذلك الجزاء الذي هو مثل المقتول من الصيد من النعم عدلان منكم يعني : فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل " هديا " يقول : يقضي بالجزاء ذوا عدل ، أي يهدى فيبلغ الكعبة   . و " الهاء " في قوله : " ويحكم به " عائدة على " الجزاء " . . 
قال أبو جعفر   : ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول من الصيد من النعم على القاتل   : أن ينظرا إلى المقتول ويستوصفاه ، فإن ذكر أنه أصاب ظبيا صغيرا ، حكما عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله في السن والجسم ، فإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرا ، حكما عليه من الضأن بكبير . وإن كان الذي أصاب حمار وحش ، حكما عليه ببقرة . إن كان الذي أصاب كبيرا من البقر ، وإن كان صغيرا فصغيرا . وإن كان المقتول ذكرا فمثله من ذكور البقر . وإن كان أنثى فمثله من البقر أنثى . ثم كذلك ذلك ، ينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من الصيد شبها من النعم ، فيحكمان عليه به ، كما قال - تعالى ذكره - . 
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، على اختلاف في ذلك بينهم . 
ذكر من قال ذلك بنحو الذي قلنا فيه :  [ ص: 23 ] 
12585 - حدثنا  هناد بن السري  قال : حدثنا ابن أبي زائدة  قال : أخبرنا  داود بن أبي هند  ، عن  بكر بن عبد الله المزني  قال : كان رجلان من الأعراب محرمين ، فأحاش أحدهما ظبيا ، فقتله الآخر . فأتيا عمر ،  وعنده عبد الرحمن بن عوف  ، فقال له عمر   : وما ترى؟ قال : شاة ، قال : وأنا أرى ذلك ، اذهبا فأهديا شاة . فلما مضيا قال أحدهما لصاحبه : ما درى أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه!! فسمعها عمر  ، فردهما فقال : هل تقرآن سورة المائدة؟ فقالا لا! فقرأها عليهما : " يحكم به ذوا عدل منكم   " ثم قال : استعنت بصاحبي هذا  . 
12586 - حدثنا أبو كريب  ويعقوب  قالا حدثنا هشيم  قال : أخبرنا  عبد الملك بن عمير  ، عن قبيصة بن جابر  قال : ابتدرت أنا وصاحب لي ظبيا في العقبة  ، فأصبته ، فأتيت  عمر بن الخطاب  ، فذكرت ذلك له . فأقبل على رجل إلى جنبه ، فنظرا في ذلك . قال فقال : اذبح كبشا قال يعقوب  في حديثه ، فقال لي : اذبح شاة فانصرفت فأتيت صاحبي فقلت : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول! فقال صاحبي : انحر ناقتك . فسمعها  عمر بن الخطاب  ، فأقبل علي ضربا بالدرة وقال : تقتل الصيد وأنت محرم ، وتغمص الفتيا! إن الله تعالى يقول في كتابه : " يحكم به ذوا عدل منكم   " هذا ابن عوف ،  وأنا عمر   ! 
12587 - حدثني يعقوب  قال : حدثنا هشيم  قال : أخبرنا حصين  ، عن  [ ص: 24 ] الشعبي  قال : أخبرني قبيصة بن جابر  ، بنحو ما حدث به عبد الملك   . 
12588 - حدثنا هناد  وأبو هشام  قالا حدثنا  وكيع  ، عن المسعودي  ، عن  عبد الملك بن عمير  ، عن قبيصة بن جابر  قال : خرجنا حجاجا فكنا إذا صلينا الغداة ، اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث ، قال : فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي أو برح ، فرماه رجل منا بحجر ، فما أخطأ خشاءه ، فركب ردعه ميتا . قال : فعظمنا عليه . فلما قدمنا مكة  ، خرجت معه حتى أتينا عمر  ، فقص عليه القصة . قال : وإذا إلى جنبه رجل كأن وجهه قلب فضة يعني عبد الرحمن بن عوف  فالتفت إلى صاحبه فكلمه . قال : ثم أقبل علي الرجل قال : أعمدا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل : لقد تعمدت رميه ، وما أردت قتله . فقال عمر   : ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ ، اعمد إلى شاة فاذبحها ، وتصدق بلحمها ، واسق إهابها . قال : فقمنا من عنده ، فقلت : أيها الرجل ،  [ ص: 25 ] عظم شعائر الله! فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه! اعمد إلى ناقتك فانحرها ، ففعل ذاك! قالقبيصة   : ولا أذكر الآية من " سورة المائدة " : " يحكم به ذوا عدل منكم   " قال : فبلغ عمر  مقالتي ، فلم يفجأنا إلا ومعه الدرة! قال : فعلا صاحبي ضربا بالدرة ، وجعل يقول : أقتلت في الحرم وسفهت الحكم! قال : ثم أقبل علي فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا أحل لك اليوم شيئا يحرم عليك مني! قال : يا قبيصة بن جابر  ، إني أراك شاب السن ، فسيح الصدر بين اللسان ، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة ، فإياك وعثرات الشباب!  [ ص: 26 ] 
12589 - حدثنا ابن وكيع  قال : حدثنا ابن عيينة  ، عن مخارق  ، عن طارق  قال : أوطأ أربد  ضبا فقتله - وهو محرم . فأتى عمر  ليحكم عليه ، فقال له عمر   : احكم معي! فحكما فيه جديا قد جمع الماء والشجر . ثم قال عمر   : " يحكم به ذوا عدل منكم   " . 
12590 - حدثنا بشر بن معاذ  قال : حدثنا جامع بن حماد  قال : حدثنا  يزيد بن زريع  قال : حدثنا سعيد  ، عن قتادة  قال : ذكر لنا أن رجلا أصاب صيدا ، فأتى ابن عمر  فسأله عن ذلك ، وعنده  عبد الله بن صفوان  ، فقال ابن عمر  لابن صفوان   : إما أن أقول فتصدقني ، وإما أن تقول فأصدقك . فقال ابن صفوان   : بل أنت فقل . فقال ابن عمر  ، ووافقه على ذلك  عبد الله بن صفوان   . 
12591 - حدثني يعقوب  قال : حدثنا هشيم  قال : أخبرنا هشام  ، عن ابن سيرين  ، عن شريح  ، أنه قال : لو وجدت حكما عدلا لحكمت في الثعلب جديا ، وجدي أحب إلي من الثعلب  .  [ ص: 27 ] 
12592 - حدثنا ابن بشار  قال : حدثنا محمد بن بكير  قال : حدثنا سعيد  ، عن قتادة  ، عن أبي مجلز   : أن رجلا سأل ابن عمر  عن رجل أصاب صيدا وهو محرم ، وعنده ابن صفوان  ، فقال له ابن عمر   : إما أن تقول فأصدقك ، أو أقول فتصدقني . قال : قل وأصدقك  . 
12593 - حدثنا ابن بشار  قال : حدثنا عبد الرحمن  قال : حدثنا شعبة  ، عن منصور  ، عن أبي وائل  قال : أخبرني ابن جرير البجلي  قال : أصبت ظبيا وأنا محرم ، فذكرت ذلك لعمر  ، فقال : ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك . فأتيت عبد الرحمن  وسعدا  ، فحكما علي تيسا أعفر قال أبو جعفر   : " الأعفر " : الأبيض . 
12594 - حدثنا  محمد بن المثنى  قال : حدثنا محمد بن جعفر  قال : حدثنا شعبة  ، عن منصور  بإسناده عن عمر  مثله . 
12595 - حدثنا عبد الحميد  قال : أخبرنا إسحاق  ، عن شريك  ، عن  [ ص: 28 ] أشعث بن سوار  ، عن ابن سيرين  قال : كان رجل على ناقة وهو محرم ، فأبصر ظبيا يأوي إلى أكمة ، فقال : لأنظرن أنا أسبق إلى هذه الأكمة أم هذا الظبي؟ فوقعت عنز من الظباء تحت قوائم ناقته فقتلتها ، فأتى عمر  فذكر ذلك له ، فحكم عليه هو وابن عوف  عنزا عفراء قال : وهي البيضاء . 
12596 - حدثني يعقوب  قال : حدثنا  ابن علية  قال : أخبرنا أيوب  ، عن محمد   : أن رجلا أوطأ ظبيا وهو محرم ، فأتى عمر  فذكر ذلك له ، وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف  ، فأقبل على عبد الرحمن  فكلمه ، ثم أقبل على الرجل فقال : أهد عنزا عفراء  . 
12597 - حدثني يعقوب  قال : حدثنا هشيم  قال : أخبرنا مغيرة  ، عن إبراهيم   : أنه كان يقول : ما أصاب المحرم من شيء لم تمض فيه حكومة ، استقبل به ، فيحكم فيه ذوا عدل  . 
12598 - حدثنا  محمد بن المثنى  قال : حدثني  وهب بن جرير  قال : حدثنا شعبة  ، عن يعلى  ، عن عمرو بن حبشي  قال : سمعت رجلا سأل عبد الله بن عمر ،  عن رجل أصاب ولد أرنب ، فقال : فيه ولد ماعز ، فيما أرى أنا . ثم قال لي : أكذاك؟ فقلت : أنت أعلم مني . فقال : قال الله - تعالى ذكره - : " يحكم به ذوا عدل منكم   " . 
12599 - حدثنا ابن بشار  قال : حدثنا ابن أبي عدي  وسهل بن يوسف  ،  [ ص: 29 ] عن حميد  ، عن بكر   : أن رجلين أبصرا ظبيا وهما محرمان ، فتراهنا ، وخطر كل واحد منهما لمن سبق إليه . فسبق إليه أحدهما ، فرماه بعصاه فقتله . فلما قدما مكة  ، أتيا عمر  يختصمان إليه ، وعنده عبد الرحمن بن عوف ،  فذكرا ذلك له ، فقال عمر   : هذا قمار ، ولا أجيزه! ثم نظر إلى عبد الرحمن  ، فقال : ما ترى! قال : شاة . فقال عمر   : وأنا أرى ذلك . فلما قفى الرجلان من عند عمر ،  قال أحدهما لصاحبه : ما درى عمر  ما يقول حتى سأل الرجل! فردهما عمر  فقال : إن الله - تعالى ذكره - لم يرض بعمر  وحده ، فقال : " يحكم به ذوا عدل منكم   " وأنا عمر  ، وهذا عبد الرحمن بن عوف   . 
وقال آخرون : بل ينظر العدلان إلى الصيد المقتول ، فيقومانه قيمته دراهم ، ثم يأمران القاتل أن يشتري بذلك من النعم هديا . فالحاكمان يحكمان في قول هؤلاء ، بالقيمة . وإنما يحتاج إليهما لتقويم الصيد قيمته في الموضع الذي أصابه فيه . 
وقد ذكرنا عن  إبراهيم النخعي  فيما مضى قبل أنه كان يقول : " ما أصاب المحرم من شيء ، حكم فيه قيمته " وهو قول جماعة من متفقهة الكوفيين   . 
وأما قوله : " هديا " فإنه مصدر على الحال من " الهاء " التي في قوله : " يحكم به " . 
وقوله : " بالغ الكعبة   " من نعت " الهدي " وصفته . وإنما جاز أن ينعت به ، وهو مضاف إلى معرفة ، لأنه في معنى النكرة . وذلك أن معنى قوله : " بالغ  [ ص: 30 ] الكعبة   " يبلغ الكعبة   . فهو وإن كان مضافا فمعناه التنوين ، لأنه بمعنى الاستقبال ، وهو نظير قوله : ( هذا عارض ممطرنا   ) [ سورة الأحقاف : 24 ] ، فوصف بقوله : " ممطرنا " " عارضا " لأن في " ممطرنا " معنى التنوين ، لأن تأويله الاستقبال ، فمعناه : هذا عارض يمطرنا . فكذلك ذلك في قوله : " هديا بالغ الكعبة   " . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					