القول في تأويل قوله تعالى ( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم   )  
قال أبو جعفر   : وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون  ببني إسرائيل من سومهم إياهم سوء العذاب ، وذبحهم أبناءهم ، واستحيائهم نساءهم إليهم ، دون فرعون   - وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوة فرعون ،  وعن أمره - لمباشرتهم ذلك بأنفسهم . فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حي بنفسه ، وإن كان عن أمر غيره ، ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه ، وإن كان الآمر قاهرا الفاعل المأمور بذلك - سلطانا كان الآمر ، أو لصا خاربا ، أو متغلبا فاجرا . كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم إلى آل فرعون  دون فرعون  ، وإن كانوا بقوة فرعون وأمره إياهم بذلك ، فعلوا ما فعلوا ، مع غلبته إياهم وقهره لهم . فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما ، فهو المقتول عندنا به قصاصا ، وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله . 
 [ ص: 42 ] وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل ، واستحيائهم نساءهم ، فإنه كان فيما ذكر لنا عن ابن عباس  وغيره كالذي : - 
891 - حدثنا به العباس بن الوليد الآملي  وتميم بن المنتصر الواسطي  ، قالا حدثنا  يزيد بن هارون  ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد  ، قال : حدثنا القاسم بن أيوب  ، قال : حدثنا سعيد بن جبير  ، عن ابن عباس  ، قال : تذاكر فرعون  وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم  خليله أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا وائتمروا ، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ، ففعلوا . فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، وأن الصغار يذبحون ، قال : توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقل أبناؤهم ; ودعوا عاما . فحملت أم موسى  بهارون  في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة ، حتى إذا كان القابل حملت بموسى   . 
892 - وقد حدثنا  عبد الكريم بن الهيثم  ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي  ،  [ ص: 43 ] قال : حدثنا سفيان بن عيينة  ، قال : حدثنا أبو سعيد  ، عن عكرمة  ، عن ابن عباس  ، قال : قالت الكهنة لفرعون   : إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكك . قال : فجعل فرعون  على كل ألف امرأة مائة رجل ، وعلى كل مائة عشرة ، وعلى كل عشرة رجلا فقال : انظروا كل امرأة حامل في المدينة ، فإذا وضعت حملها فانظروا إليه ، فإن كان ذكرا فاذبحوه ، وإن كان أنثى فخلوا عنها . وذلك قوله : ( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم   ) . 
893 - حدثني المثنى بن إبراهيم  ، قال : حدثنا آدم  ، قال : حدثنا أبو جعفر  ، عن الربيع  ، عن أبي العالية  في قوله : ( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب   ) قال : إن فرعون  ملكهم أربعمائة سنة ، فقالت الكهنة : إنه سيولد العام بمصر  غلام يكون هلاكك على يديه . فبعث في أهل مصر  نساء قوابل فإذا ولدت امرأة غلاما أتي به فرعون  فقتله ، ويستحيي الجواري . 
894 - وحدثني المثنى  ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج  ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر  ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس  في قوله : ( وإذ نجيناكم من آل فرعون   ) الآية ، قال : إن فرعون  ملكهم أربعمائة سنة ، وإنه أتاه آت ، فقال : إنه سينشأ في مصر  غلام من بني إسرائيل ، فيظهر عليك ، ويكون هلاكك على يديه . فبعث في مصر  نساء . فذكر نحو حديث آدم   . 
895 - وحدثني موسى بن هارون  ، قال : حدثنا عمرو بن حماد  ، قال : حدثنا  [ ص: 44 ] أسباط بن نصر  عن  السدي  ، قال : كان من شأن فرعون  أنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس  حتى اشتملت على بيوت مصر  ، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل ، وأخربت بيوت مصر   . فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والحازة ، فسألهم عن رؤياه فقالوا له : يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه - يعنون بيت المقدس   - رجل يكون على وجهه هلاك مصر   . فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه ، ولا تولد لهم جارية إلا تركت . وقال للقبط : انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم ، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة . فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم ، وأدخلوا غلمانهم ; فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى : ( إن فرعون علا في الأرض   ) - يقول : تجبر في الأرض - ( وجعل أهلها شيعا   ) - ، يعني بني إسرائيل ، حين جعلهم في الأعمال القذرة - ، ( يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم   ) [ القصص : 4 ] فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح ، فلا يكبر الصغير . وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت ، فأسرع فيهم . فدخل رءوس القبط على فرعون  ، فكلموه ، فقالوا : إن هؤلاء قد وقع فيهم الموت ، فيوشك أن يقع العمل على غلماننا ! بذبح أبنائهم ، فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار ! فلو أنك كنت تبقي من أولادهم ! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة . فلما كان في السنة التي لا يذبحون  [ ص: 45 ] فيها ولد هارون  ، فترك ; فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى   . 
896 - حدثنا محمد بن حميد  ، قال : حدثنا سلمة  ، عن ابن إسحاق  ، قال : ذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى  أتى منجمو فرعون  وحزاته إليه فقالوا له : تعلم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه يسلبك ملكك ، ويغلبك على سلطانك ، ويخرجك من أرضك ، ويبدل دينك . فلما قالوا له ذلك ، أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان ، وأمر بالنساء يستحيين . فجمع القوابل من نساء [ أهل ] مملكته ، فقال لهن : لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتنه . فكن يفعلن ذلك ، وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان ، ويأمر بالحبالى فيعذبن حتى يطرحن ما في بطونهن . 
897 - حدثنا ابن حميد  قال ، حدثنا سلمة  ، عن محمد بن إسحاق  ، عن عبد الله بن أبي نجيح  ، عن مجاهد  قال ، لقد ذكر [ لي ] أنه كان ليأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال الشفار ، ثم يصف بعضه إلى بعض ، ثم يؤتى بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه فيحز أقدامهن . حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع من بين رجليها فتظل تطؤه تتقي به حد القصب عن رجلها ، لما بلغ من جهدها ، حتى أسرف في ذلك وكاد يفنيهم ، فقيل له : أفنيت الناس  [ ص: 46 ] وقطعت النسل ! وإنهم خولك وعمالك ! فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما . فولد هارون  في السنة التي يستحيا فيها الغلمان ، وولد موسى  في السنة التي فيها يقتلون . 
قال أبو جعفر   : والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم : كان ذبح آل فرعون  أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم فتأويل قوله إذا - على ما تأوله الذين ذكرنا قولهم - : ( ويستحيون نساءكم   ) ، يستبقونهن فلا يقتلونهن . 
وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس   وأبي العالية   والربيع بن أنس   والسدي  في تأويل قوله : ( ويستحيون نساءكم   ) ، أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن - أن يكون جائزا أن يسمى الطفل من الإناث في حال صباها وبعد ولادها : " امرأة " والصبايا الصغار وهن أطفال : " نساء " . لأنهم تأولوا قول الله عز وجل : ( ويستحيون نساءكم   ) ، يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن . 
وقد أنكر ذلك من قولهم  ابن جريج  ، فقال بما : - 
898 - حدثنا به القاسم بن الحسن  قال ، حدثنا الحسين بن داود  قال ، حدثني حجاج  ، عن  ابن جريج  قوله : ( ويستحيون نساءكم   ) قال : يسترقون نساءكم .  [ ص: 47 ] فحاد  ابن جريج ،  بقوله هذا ، عما قاله من ذكرنا قوله في قوله : ( ويستحيون نساءكم   ) : إنه استحياء الصبايا الأطفال ، إذ لم يجدهن يلزمهن اسم " نساء " ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله " ويستحيون " ، يسترقون ، وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا أعجمية . وذلك أن الاستحياء إنما هو استفعال من الحياة نظير " الاستبقاء " من " البقاء " ، و" الاستسقاء " من " السقي " . وهو من معنى الاسترقاق بمعزل . 
وقد تأول آخرون : قوله ( يذبحون أبناءكم   ) ، بمعنى يذبحون رجالكم آباء أبنائكم ، وأنكروا أن يكون المذبوحون الأطفال ، وقد قرن بهم النساء . فقالوا : في إخبار الله جل ثناؤه إن المستحيين هم النساء ، الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان ، لأن المذبحين لو كانوا هم الأطفال ، لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا . قالوا : وفي إخبار الله عز وجل أنهم النساء ، ما بين أن المذبحين هم الرجال . 
قال أبو جعفر   : وقد أغفل قائلو هذه المقالة - مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين - موضع الصواب . وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أم موسى  أنه أمرها أن ترضع موسى  ، فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت ، ثم تلقيه في اليم . فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما يقتلون الرجال ويتركون النساء ، لم يكن بأم موسى  حاجة إلى إلقاء موسى  في اليم ، أو لو أن موسى  كان رجلا لم تجعله أمه في التابوت .  [ ص: 48 ] ولكن ذلك عندنا على ما تأوله ابن عباس  ومن حكينا قوله قبل : من ذبح آل فرعون  الصبيان وتركهم من القتل الصبايا . وإنما قيل : ( ويستحيون نساءكم   ) ، إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن - وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء ، لأنهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن ، فقيل : ( ويستحيون نساءكم   ) ، يعني بذلك الوالدات والمولودات ، كما يقال : " قد أقبل الرجال " وإن كان فيهم صبيان . فكذلك قوله : ( ويستحيون نساءكم   ) . وأما من الذكور ، فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودون ، قيل : " يذبحون أبناءكم " ، ولم يقل : يذبحون رجالكم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					