[ ص: 44 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام    ( 47 ) ) 
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد  صلى الله عليه وسلم : ( فلا تحسبن الله مخلف وعده   ) الذي وعدهم من كذبهم ، وجحد ما أتوهم به من عنده ، وإنما قاله تعالى ذكره لنبيه تثبيتا وتشديدا لعزيمته ، ومعرفه أنه منزل من سخطه بمن كذبه وجحد نبوته ، ورد عليه ما أتاه به من عند الله ، مثال ما أنزل بمن سلكوا سبيلهم من الأمم الذين كانوا قبلهم على مثل منهاجهم من تكذيب رسلهم وجحود نبوتهم ورد ما جاءوهم به من عند الله عليهم . 
وقوله : ( إن الله عزيز ذو انتقام   ) يعني بقوله ( إن الله عزيز   ) لا يمانع منه شيء أراد عقوبته ، قادر على كل من طلبه ، لا يفوته بالهرب منه . ( ذو انتقام   ) ممن كفر برسله وكذبهم ، وجحد نبوتهم ، وأشرك به واتخذ معه إلها غيره . وأضيف قوله ( مخلف ) إلى الوعد ، وهو مصدر ، لأنه وقع موقع الاسم ، ونصب قوله ( رسله ) بالمعنى ، وذلك أن المعنى : فلا تحسبن الله مخلف رسله وعده ، فالوعد وإن كان مخفوضا بإضافة "مخلف" إليه ، ففي معنى النصب ، وذلك أن الإخلاف يقع على منصوبين مختلفين ، كقول القائل : كسوت عبد الله ثوبا ، وأدخلته دارا ; وإذا كان الفعل كذلك يقع على منصوبين مختلفين ، جاز تقديم أيهما قدم ، وخفض ما ولي الفعل الذي هو في صورة الأسماء ، ونصب الثاني ، فيقال : أنا مدخل عبد الله الدار ، وأنا مدخل الدار عبد الله ، إن قدمت الدار إلى المدخل وأخرت عبد الله خفضت الدار ، إذ أضيف مدخل إليها ، ونصب عبد الله ; وإن قدم عبد الله إليه ، وأخرت الدار ، خفض عبد الله بإضافة مدخل إليه ، ونصب الدار ; وإنما فعل ذلك كذلك ، لأن الفعل ، أعني مدخل ، يعمل في كل واحد منهما نصبا نحو عمله في الآخر ; ومنه قول الشاعر : 
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع أضاف "مدخل" إلى الظل ، ونصب الرأس ، وإنما معنى الكلام : مدخل  [ ص: 45 ] رأسه الظل . ومنه قول الآخر : 
فرشني بخير لا أكون ومدحتي كناحت يوم صخرة بعسيل والعسيل : الريشة جمع بها الطيب ، وإنما معنى الكلام : كناحت صخرة يوما بعسيل ، وكذلك قول الآخر : 
رب ابن عم لسليمى مشمعل طباخ ساعات الكرى زاد الكسل وإنما معنى الكلام : طباخ زاد الكسل ساعات الكرى .
فأما من قرأ ذلك ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله   ) فقد بينا وجه بعده من الصحة في كلام العرب في سورة الأنعام ، عند قوله ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم   ) ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					