القول في تأويل قوله تعالى : ( قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري    ( 87 ) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي   ( 88 ) ) 
يقول تعالى ذكره : قال قوم موسى  لموسى   : ما أخلفنا موعدك ، يعنون بموعده عهده الذي كان عهده إليهم . 
كما حدثني محمد بن عمرو  ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى   " ح " وحدثنا الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  عن مجاهد  قوله ( موعدي ) قال : عهدي ، وذلك العهد والموعد هو ما بيناه قبل  . 
وقوله ( بملكنا ) يخبر جل ذكره عنهم أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ ، وقالوا : إنا لم نطق حمل أنفسنا على الصواب ، ولم نملك أمرنا حتى وقعنا في الذي وقعنا فيه من الفتنة . 
وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة   ( بملكنا ) بفتح الميم ، وقرأته عامة قراء الكوفة   ( بملكنا ( بضم الميم ، وقرأه بعض أهل البصرة   ( بملكنا ) بالكسر ، فأما الفتح والضم فهما بمعنى واحد ، وهما بقدرتنا وطاقتنا غير أن أحدهما مصدر ، والآخر اسم ، وأما الكسر فهو بمعنى ملك الشيء وكونه للمالك . 
واختلف أيضا أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما أخلفنا موعدك بأمرنا . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني علي  قال : ثنا عبد الله  قال : ثني  [ ص: 352 ] معاوية  عن علي  عن ابن عباس  قوله ( ما أخلفنا موعدك بملكنا   ) يقول : بأمرنا  . 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى  وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  عن مجاهد  قوله ( بملكنا ) قال : بأمرنا  . 
حدثنا القاسم  قال : ثنا الحسين  قال : ثني حجاج  عن  ابن جريج  عن مجاهد  مثله . 
وقال آخرون : معناه : بطاقتنا . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد  عن قتادة   ( قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا   ) : أي بطاقتنا  . 
حدثنا موسى  قال : ثنا عمرو  قال : ثنا أسباط  عن  السدي   ( قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا   ) يقول : بطاقتنا  . 
وقال آخرون : معناه : ما أخلفنا موعدك بهوانا ، ولكنا لم نملك أنفسنا . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد  في قوله ( ما أخلفنا موعدك بملكنا   ) قال : يقول بهوانا ، قال : ولكنه جاءت ثلاثة ، قال ومعهم حلي استعاروه من آل فرعون ،  وثياب . 
وقال أبو جعفر   : وكل هذه الأقوال الثلاثة في ذلك متقاربات المعنى ، لأن من لم يملك نفسه لغلبة هواه على ما أمر فإنه لا يمتنع في اللغة أن يقول : فعل فلان هذا الأمر ، وهو لا يملك نفسه وفعله ، وهو لا يضبطها وفعله وهو لا يطيق تركه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فسواء بأي القراءات الثلاث قرأ ذلك القارئ ، وذلك أن من كسر الميم من الملك ، فإنما يوجه معنى الكلام إلى ما أخلفنا موعدك ، ونحن نملك الوفاء به لغلبة أنفسنا إيانا على خلافه ، وجعله من قول القائل : هذا ملك فلان ، لما يملكه من المملوكات ، وأن من فتحها ، فإنه يوجه معنى الكلام إلى نحو ذلك ، غير أنه يجعله مصدرا من قول القائل : ملكت الشيء أملكه ملكا وملكة ، كما يقال : غلبت فلانا أغلبه غلبا وغلبة ، وأن من ضمها فإنه وجه معناه إلى ما أخلفنا موعدك بسلطاننا وقدرتنا ، أي ونحن نقدر  [ ص: 353 ] أن نمتنع منه ، لأن كل من قهر شيئا فقد صار له السلطان عليه ، وقد أنكر بعض الناس قراءة من قرأه بالضم ، فقال : أي ملك كان يومئذ لبني إسرائيل ،  وإنما كانوا بمصر مستضعفين ، فأغفل معنى القوم وذهب غير مرادهم ذهابا بعيدا ، وقارئو ذلك بالضم لم يقصدوا المعنى الذي ظنه هذا المنكر عليهم ذلك ، وإنما قصدوا إلى أن معناه : ما أخلفنا موعدك بسلطان كانت لنا على أنفسنا نقدر أن نردها عما أتت ، لأن هواها غلبنا على إخلافك الموعد . 
وقوله ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم   ) يقول : ولكنا حملنا أثقالا وأحمالا من زينة القوم ، يعنون من حلي آل فرعون ،  وذلك أن بني إسرائيل  لما أراد موسى  أن يسير بهم ليلا من مصر بأمر الله إياه بذلك ، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون  وحليهم ، وقال : إن الله مغنمكم ذلك ، ففعلوا ، واستعاروا من حلي نسائهم وأمتعتهم ، فذلك قولهم لموسى  حين قال لهم ( أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم   ) . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن سعد  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس  قوله ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم   ) فهو ما كان مع بني إسرائيل  من حلي آل فرعون ،  يقول : خطؤنا بما أصبنا من حلي عدونا  . 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى  وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  عن مجاهد  قوله ( أوزارا ) قال : أثقالا  . وقوله ( من زينة القوم   ) قال : هي الحلي التي استعاروا من آل فرعون ،  فهي الأثقال . 
حدثنا القاسم  قال : ثنا الحسين  قال : ثني حجاج  عن  ابن جريج  عن مجاهد   ( ولكنا حملنا أوزارا   ) قال : أثقالا ( من زينة القوم   ) قال : حليهم  . 
حدثنا موسى  قال : ثنا عمرو  قال : ثنا أسباط  عن  السدي   ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم   ) يقول : من حلي القبط .  [ ص: 354 ] حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد  في قوله ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم   ) قال : الحلي الذي استعاروه والثياب ليست من الذنوب في شيء ، لو كانت الذنوب كانت حملناها نحملها ، فليست من الذنوب في شيء . 
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأ عامة قراء المدينة  وبعض المكيين ( حملنا ) بضم الحاء وتشديد الميم بمعنى أن موسى  يحملهم ذلك ، وقرأته عامة قراء الكوفة  والبصرة  وبعض المكيين ( حملنا ) بتخفيف الحاء والميم وفتحهما ، بمعنى أنهم حملوا ذلك من غير أن يكلفهم حمله أحد . 
قال أبو جعفر   : والقول عندي في تأويل ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، لأن القوم حملوا ، وأن موسى قد أمرهم بحمله ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب . 
وقوله ( فقذفناها ) يقول : فألقينا تلك الأوزار من زينة القوم في الحفرة ( فكذلك ألقى السامري   ) يقول : فكما قذفنا نحن تلك الأثقال ، فكذلك ألقى السامري  ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل   . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى  وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  عن مجاهد  قوله ( فقذفناها ) قال : فألقيناها ( فكذلك ألقى السامري   ) : كذلك صنع  . 
حدثنا القاسم  ، قال : ثنا الحسين  ، قال : ثني حجاج  عن  ابن جريج  عن مجاهد   ( فقذفناها ) قال : فألقيناها ( فكذلك ألقى السامري   ) فكذلك صنع  . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد  عن قتادة   ( فقذفناها ) : أي فنبذناها  . 
وقوله ( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار   ) يقول : فأخرج لهم السامري  مما قذفوه ومما ألقاه عجلا جسدا له خوار ، ويعني بالخوار الصوت ، وهو صوت البقر . 
 [ ص: 355 ] ثم اختلف أهل العلم في كيفية إخراج السامري  العجل ، فقال بعضهم : صاغه صياغة ، ثم ألقى من تراب حافر فرس جبرائيل  في فمه فخار . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد  عن قتادة   ( فكذلك ألقى السامري   ) قال : كان الله وقت لموسى  ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ، فلما مضت الثلاثون قال عدو الله السامري   : إنما أصابكم الذي أصابكم عقوبة بالحلي الذي كان معكم ، فهلموا وكانت حليا تعيروها من آل فرعون ،  فساروا وهي معهم ، فقذفوها إليه ، فصورها صورة بقرة ، وكان قد صر في عمامته أو في ثوبه قبضة من أثر فرس جبرائيل ، فقذفها مع الحلي والصورة ( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار   ) فجعل يخور خوار البقر ، فقال ( هذا إلهكم وإله موسى   ) . 
حدثنا الحسن  قال : أخبرنا عبد الرزاق  قال : أخبرنا معمر  عن قتادة  قال : لما استبطأ موسى  قومه قال لهم السامري   : إنما احتبس عليكم لأجل ما عندكم من الحلي ، وكانوا استعاروا حليا من آل فرعون  فجمعوه فأعطوه السامري  فصاغ منه عجلا ثم أخذ القبضة التي قبض من أثر الفرس ، فرس الملك ، فنبذها في جوفه ، فإذا هو عجل جسد له خوار ، قالوا : هذا إلهكم وإله موسى ،  ولكن موسى  نسي ربه عندكم . 
وقال آخرون في ذلك بما حدثني موسى  قال : ثنا عمرو  قال : قال : ثنا أسباط  عن  السدي  قال : أخذ السامري  من تربة الحافر ، حافر فرس جبرائيل  ، فانطلق موسى  واستخلف هارون  على بني إسرائيل  وواعدهم ثلاثين ليلة ، فأتمها الله بعشر ، قال لهم هارون   : يا بني إسرائيل  إن الغنيمة لا تحل لكم ، وإن حلي القبط إنما هو غنيمة ، فاجمعوها جميعا ، فاحفروا لها حفرة فادفنوها ، فإن جاء موسى  فأحلها أخذتموها ، وإلا كان شيئا لم تأكلوه ، فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة ، فجاء السامري  بتلك القبضة فقذفها فأخرج الله من الحلي عجلا جسدا له خوار ، وعدت بنو إسرائيل  موعد موسى ،  فعدوا الليلة يوما ، واليوم  [ ص: 356 ] يوما ، فلما كان لعشرين خرج لهم العجل ، فلما رأوه قال لهم السامري   ( هذا إلهكم وإله موسى فنسي   ) فعكفوا عليه يعبدونه ، وكان يخور ويمشي ( فكذلك ألقى السامري   ) ذلك حين قال لهم هارون   : احفروا لهذا الحلي حفرة واطرحوه فيها ، فطرحوه ، فقذف السامري  تربته ، وقوله : ( فقالوا هذا إلهكم وإله موسى   ) يقول : فقال قوم موسى  الذين عبدوا العجل : هذا معبودكم ومعبود موسى  ، وقوله ( فنسي ) يقول : فضل وترك . 
ثم اختلف أهل التأويل في قوله ( فنسي ) من قائله ومن الذي وصف به وما معناه ، فقال بعضهم : هذا من الله خبر عن السامري  والسامري  هو الموصوف به ، وقالوا : معناه : أنه ترك الدين الذي بعث الله به موسى  وهو الإسلام . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا ابن حميد  قال : ثنا سلمة  قال : ثني محمد بن إسحاق  عن حكيم بن جبير  عن سعيد بن جبير  عن ابن عباس  قال : يقول الله ( فنسي ) : أي ترك ما كان عليه من الإسلام ، يعني : السامري   . 
وقال آخرون : بل هذا خبر من الله عن السامري  أنه قال لبني إسرائيل ،  وأنه وصف موسى  بأنه ذهب يطلب ربه ، فأضل موضعه ، وهو هذا العجل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن سعد  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس   ( فقذفناها ) يعني زينة القوم حين أمرنا السامري  لما قبض قبضة من أثر جبرائيل  عليه السلام ، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلا جسدا له خوار ( فقالوا هذا إلهكم وإله موسى   ) الذي انطلق يطلبه ( فنسي ) يعني : نسي موسى ،  ضل عنه فلم يهتد له . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد  عن قتادة   ( فنسي ) يقول : طلب هذا موسى  فخالفه الطريق . 
حدثنا الحسن  قال : أخبرنا عبد الرزاق  قال : أخبرنا معمر  عن قتادة   ( فنسي ) يقول : قال السامري   : موسى  نسي ربه عندكم . 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى  وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا عن ابن أبي نجيح  عن  [ ص: 357 ] مجاهد  قوله ( فنسي ) موسى ،  قال : هم يقولونه : أخطأ الرب العجل  . 
حدثنا القاسم  قال : ثنا الحسين  قال : ثني حجاج  عن  ابن جريج  عن مجاهد   ( فنسي ) قال : نسي موسى ،  أخطأ الرب العجل ، قوم موسى  يقولونه  . 
حدثني موسى  قال : ثنا عمرو  قال : ثنا أسباط  عن  السدي   ( فنسي ) يقول : ترك موسى  إلهه هاهنا وذهب يطلبه . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد  في قوله ( هذا إلهكم وإله موسى فنسي   ) قال : يقول : فنسي حيث وعده ربه هاهنا ، ولكنه نسي . 
حدثت عن الحسين  قال : سمعت أبا معاذ  يقول : أخبرنا عبيد  قال : سمعت الضحاك  يقول في قوله ( هذا إلهكم وإله موسى فنسي   ) يقول : نسي موسى ربه فأخطأه ، وهذا العجل إله موسى . 
قال أبو جعفر   : والذي هو أولى بتأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن هؤلاء ، وهو أن ذلك خبر من الله عز ذكره عن السامري  أنه وصف موسى  بأنه نسي ربه ، وأنه ربه الذي ذهب يريده هو العجل الذي أخرجه السامري  لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه ، وأنه عقيب ذكر موسى  ، وهو أن يكون خبرا من السامري  عنه بذلك أشبه من غيره . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					