[ ص: 405 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان    ) 
قال أبو جعفر   : يعني بقوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين   ) ، الفريق من أحبار اليهود  وعلمائها ، الذين وصفهم الله - جل ثناؤه - بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى ،  وراء ظهورهم ، تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون ، كأنهم لا يعلمون . فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه ، وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود  فاتبعوه ، وذلك هو الخسار والضلال المبين . 
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان   ) . فقال بعضهم : عنى الله بذلك اليهود  الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة ، فوجدوا التوراة للقرآن موافقة  ، تأمر من اتباع محمد  صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، بمثل الذي يأمر به القرآن ، فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان   . 
ذكر من قال ذلك : 
1646 - حدثني موسى بن هارون  قال : حدثنا عمرو  قال : حدثنا أسباط  ، عن  السدي   : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان   ) - على عهد سليمان   - قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم ، فتحدث الكهنة الناس ، فيجدونه كما قالوا . حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره ، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة ، فاكتتب  [ ص: 406 ] الناس ذلك الحديث في الكتب ، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب ، فبعث سليمان  في الناس فجمع تلك الكتب ، فجعلها في صندوق ، ثم دفنها تحت كرسيه ، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق ، وقال : لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه! فلما مات سليمان  ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان  ، وخلف بعد ذلك خلف ، تمثل الشيطان في صورة إنسان ، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل ، فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا : نعم . قال : فاحفروا تحت الكرسي ، وذهب معهم فأراهم المكان ، وقام ناحية ، فقالوا له : فادن! قال : لا ولكني هاهنا في أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني! فحفروا فوجدوا تلك الكتب ، فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان  إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ، ثم طار فذهب ، وفشا في الناس أن سليمان  كان ساحرا ، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاءهم محمد  صلى الله عليه وسلم خاصموه بها ، فذلك حين يقول : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر   )  . 
1647 - حدثت عن عمار بن الحسن  قال : حدثنا ابن أبي جعفر  ، عن أبيه ، عن الربيع  في قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان   ) ، قالوا : إن اليهود  سألوا محمدا  صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه ، فيخصمهم ، فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل إلينا منا! وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله جل وعز : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر   ) . وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر  [ ص: 407 ] والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان   - وكان سليمان  لا يعلم الغيب ، فلما فارق سليمان  الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس ، وقالوا : هذا علم كان سليمان  يكتمه ويحسد الناس عليه! فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث ، فرجعوا من عنده وقد حزنوا ، وأدحض الله حجتهم  . 
1648 - وحدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد  في قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان   ) ، قال : لما جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقا لما معهم ، ( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب   ) الآية ، قال : اتبعوا السحر ، وهم أهل الكتاب . فقرأ حتى بلغ : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر   )  . 
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك اليهود  الذين كانوا على عهد سليمان   . 
ذكر من قال ذلك : 
1649 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني حجاج  قال : قال  ابن جريج   : تلت الشياطين السحر على اليهود  على ملك سليمان ،  فاتبعته اليهود  على ملكه ، يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان   . 
1650 - حدثنا ابن حميد  قال : حدثنا سلمة  قال : حدثني ابن إسحاق  قال : عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود  عليه السلام ، فكتبوا أصناف السحر : "من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا ، فليفعل كذا وكذا" . حتى إذا صنعوا أصناف السحر ، جعلوه في كتاب ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان  ، وكتبوا في عنوانه : "هذا ما كتب آصف بن برخيا  الصديق للملك سليمان بن داود  من ذخائر كنوز العلم" ، ثم دفنوه تحت كرسيه ، فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا ، فلما عثروا عليه قالوا : ما كان سليمان  [ ص: 408 ] بن داود  إلا بهذا! فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه ، فليس في أحد أكثر منه في يهود . فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما نزل عليه من الله ، سليمان بن داود  وعده فيمن عده من المرسلين ، قال من كان بالمدينة  من يهود : ألا تعجبون لمحمد   ! يزعم أن سليمان بن داود  كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد  صلى الله عليه وسلم : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا   ) . 
قال : كان حين ذهب ملك سليمان ،  ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات ، فلما رجع الله إلى سليمان  ملكه ، قام الناس على الدين كما كانوا ، وأن سليمان  ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ، وتوفي سليمان  حدثان ذلك ، فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان  ، وقالوا : هذا كتاب من الله نزل على سليمان  أخفاه منا! فأخذوا به فجعلوه دينا ، فأنزل الله : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين   ) ، وهي المعازف واللعب ، وكل شيء يصد عن ذكر الله . 
قال أبو جعفر   : والصواب من القول في تأويل قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان   ) ، أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود  الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا نبوته  ، وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل ، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله ، وهجرهم العمل به ، وهو في أيديهم يعلمونه  [ ص: 409 ] ويعرفون أنه كتاب الله ، واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان   . وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . 
وإنما اخترنا هذا التأويل ، لأن المتبعة ما تلته الشياطين ، في عهد سليمان  وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق ، وأمر السحر لم يزل في اليهود   . ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله : ( واتبعوا ) بعضا منهم دون بعض . إذ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا - من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين   ) - إلى أخلافهم بعدهم ، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول ، ولا حجة تدل عليه؛ فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال : كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان  من اليهود ،  داخل في معنى الآية ، على النحو الذي قلنا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					