القول في تأويل قوله تعالى : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار    ( 45 ) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار   ( 46 ) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار   ( 47 ) ) 
اختلفت القراء في قراءة قوله ( عبادنا ) فقرأته عامة قراء الأمصار : ( واذكر عبادنا ) على الجماع غير ابن كثير  فإنه ذكر عنه أنه قرأه : " واذكر عبدنا " على التوحيد ، كأنه يوجه الكلام إلى أن إسحاق  ويعقوب  من ذرية إبراهيم  ، وأنهما ذكرا من بعده . 
 [ ص: 215 ] حدثنا أبو كريب  قال : ثنا ابن عيينة  عن عمرو  عن عطاء  سمع ابن عباس  يقرأ : " واذكر عبدنا إبراهيم " قال : إنما ذكر إبراهيم  ، ثم ذكر ولده بعده . 
والصواب عندنا من القراءة في ذلك ، قراءة من قرأه على الجماع ، على أن إبراهيم  وإسحاق  ويعقوب  بيان عن العباد ، وترجمة عنه ، لإجماع الحجة من القراء عليه . 
وقوله ( أولي الأيدي والأبصار   ) ويعني بالأيدي : القوة ، يقول : أهل القوة على عبادة الله وطاعته . ويعني بالأبصار : أنهم أهل أبصار القلوب ، يعني به : أولي العقول للحق . 
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم في ذلك نحوا مما قلنا فيه . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني علي  قال : ثنا أبو صالح  قال : ثني معاوية ،  عن علي ،  عن ابن عباس  قوله ( أولي الأيدي   ) يقول : أولي القوة والعبادة ، والأبصار يقول : الفقه في الدين  . 
حدثني محمد بن سعد  قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس  قوله ( أولي الأيدي والأبصار   ) قال : فضلوا بالقوة والعبادة  . 
حدثني  محمد بن المثنى  قال : ثنا محمد بن جعفر  قال : ثنا شعبة ،  عن منصور  أنه قال في هذه الآية ( أولي الأيدي ) قال : القوة  . 
حدثنا ابن حميد  قال : ثنا حكام ،  عن عنبسة ،  عن محمد بن عبد الرحمن  عن القاسم بن أبي بزة  عن مجاهد  في قوله ( أولي الأيدي ) قال :  [ ص: 216 ] القوة في أمر الله  . 
حدثنا ابن حميد  قال : ثنا حكام ،  عن عمرو  عن منصور  عن مجاهد   ( أولي الأيدي ) قال : الأيدي القوة في أمر الله ، ( والأبصار ) العقول  . 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى ،  وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  عن مجاهد   ( أولي الأيدي والأبصار   ) قال : القوة في طاعة الله ، ( والأبصار ) : قال : البصر في الحق  . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة  قوله ( أولي الأيدي والأبصار   ) يقول : أعطوا قوة في العبادة ، وبصرا في الدين  . 
حدثنا محمد  قال : ثنا أحمد  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي  قوله ( أولي الأيدي والأبصار   ) قال : الأيدي : القوة في طاعة الله ، والأبصار : البصر بعقولهم في دينهم  . 
حدثنا ابن حميد  قال : ثنا جرير ،  عن منصور ،  عن مجاهد  في قوله ( أولي الأيدي والأبصار   ) قال : الأيدي : القوة ، والأبصار : العقول  . 
فإن قال لنا قائل : وما الأيدي من القوة ، والأيدي إنما هي جمع يد ، واليد جارحة ، وما العقول من الأبصار ، وإنما الأبصار جمع بصر ؟ قيل : إن ذلك مثل ، وذلك أن باليد البطش ، وبالبطش تعرف قوة القوي ، فلذلك قيل للقوي : ذو يد ، وأما البصر ، فإنه عنى به بصر القلب ، وبه تنال معرفة الأشياء ، فلذلك قيل للرجل العالم بالشيء : يصير به . وقد يمكن أن يكون عنى بقوله ( أولي الأيدي ) : أولي الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة ، فجعل الله أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا أيديا لهم عند الله تمثيلا لها باليد ، تكون عند الرجل الآخر . 
وقد ذكر عن عبد الله  أنه كان يقرؤه : " أولي الأيد " بغير ياء ، وقد  [ ص: 217 ] يحتمل أن يكون ذلك من التأييد ، وأن يكون بمعنى الأيدي ، ولكنه أسقط منه الياء ، كما قيل : ( يوم ينادي المناد ) ، وقوله عز وجل : ( إنا أخلصناهم بخالصة   ) يقول - تعالى ذكره - : إنا خصصناهم بخاصة : ذكرى الدار . 
واختلف القراء في قراءة قوله ( بخالصة ذكرى الدار   ) فقرأته عامة قراء المدينة   : " بخالصة ذكرى الدار " بإضافة خالصة إلى ذكرى الدار ، بمعنى : أنهم أخلصوا بخالصة الذكرى ، والذكرى إذا قرئ كذلك غير الخالصة ، كما المتكبر إذا قرئ : " على كل قلب متكبر " بإضافة القلب إلى المتكبر ، هو الذي له القلب وليس بالقلب . وقرأ ذلك عامة قراء العراق   : ( بخالصة ذكرى الدار   ) بتنوين قوله ( خالصة ) ورد ذكرى عليها ، على أن الدار هي الخالصة ، فردوا الذكرى وهي معرفة على خالصة ، وهي نكرة ، كما قيل : لشر مآب جهنم ، فرد جهنم وهي معرفة على المآب وهي نكرة . 
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . 
وقد اختلف أهل التأويل ، في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : إنا أخلصناهم بخالصة هي ذكرى الدار : أي أنهم كانوا يذكرون الناس الدار الآخرة ، ويدعونهم إلى طاعة الله ، والعمل للدار الآخرة . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار   ) قال : بهذه أخلصهم الله ، كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله  . 
وقال آخرون : معنى ذلك أنه أخلصهم بعملهم للآخرة وذكرهم لها . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني علي بن الحسن الأزدي  قال : ثنا يحيى بن يمان  عن  ابن جريج   [ ص: 218 ] عن مجاهد  في قوله ( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار   ) قال : بذكر الآخرة فليس لهم هم غيرها  . 
حدثنا محمد بن الحسين  قال : ثنا أحمد بن المفضل  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي   ( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار   ) قال : بذكرهم الدار الآخرة ، وعملهم للآخرة  . 
وقال آخرون : معنى ذلك : إنا أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة ، وهذا التأويل على قراءة من قرأه بالإضافة . وأما القولان الأولان فعلى تأويل قراءة من قرأه بالتنوين . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال أبن زيد ،  في قوله : " إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار   " قال : بأفضل ما في الآخرة أخلصناهم به ، وأعطيناهم إياه قال : والدار الجنة ، وقرأ : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض   ) قال : الجنة ، وقرأ : ( ولنعم دار المتقين   ) قال : هذا كله الجنة ، وقال : أخلصناهم بخير الآخرة  . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : خالصة عقبى الدار . 
 [ ص: 219 ] ذكر من قال ذلك : 
حدثنا ابن وكيع  قال : ثنا أبي ، عن شريك  عن سالم الأفطس  عن سعيد بن جبير   ( بخالصة ذكرى الدار   ) قال : عقبى الدار  . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بخالصة أهل الدار . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثت عن ابن أبي زائدة  عن  ابن جريج  قال : ثني ابن أبي نجيح  أنه سمع  مجاهدا  يقول : ( بخالصة ذكرى الدار   ) هم أهل الدار ، وذو الدار ، كقولك : ذو الكلاع ، وذو يزن . 
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يتأول ذلك على القراءة بالتنوين ( بخالصة ) عمل في ذكر الآخرة . 
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك على قراءة من قرأه بالتنوين أن يقال : معناه : إنا أخلصناهم بخالصة هي ذكرى الدار الآخرة ، فعملوا لها في الدنيا ، فأطاعوا الله وراقبوه ، وقد يدخل في وصفهم بذلك أن يكون من صفتهم أيضا الدعاء إلى الله وإلى الدار الآخرة ، لأن ذلك من طاعة الله ، والعمل للدار الآخرة ، غير أن معنى الكلمة ما ذكرت . وأما على قراءة من قرأه بالإضافة ، فأن يقال : معناه : إنا أخلصناهم بخالصة ما ذكر في الدار الآخرة ، فلما لم تذكر " في " أضيفت الذكرى إلى الدار كما قد بينا قبل في معنى قوله ( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير   ) وقوله ( بسؤال نعجتك إلى نعاجه   ) 
وقوله ( وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار   ) يقول : وإن هؤلاء الذين ذكرنا عندنا لمن الذين اصطفيناهم لذكرى الآخرة - الأخيار الذين اخترناهم لطاعتنا ورسالتنا إلى خلقنا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					