القول في تأويل قوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم    ( 53 ) ) 
اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية ، فقال بعضهم : عني بها قوم من أهل الشرك ، قالوا لما دعوا إلى الإيمان بالله : كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا ، وقتلنا النفس التي حرم الله ، والله يعد فاعل ذلك النار ، فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان ، فنزلت هذه الآية . 
ذكر من قال ذلك : 
محمد بن سعد  قال ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس   : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   ) وذلك أن أهل مكة  قالوا : يزعم محمد  أنه من عبد الأوثان ، ودعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم ، وقد عبدنا الآلهة ، وقتلنا النفس التي حرم الله ونحن أهل الشرك ؟ فأنزل الله : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   ) يقول : لا تيأسوا من رحمتي ، إن الله يغفر الذنوب جميعا . وقال : ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له   ) وإنما يعاتب الله أولي الألباب ، وإنما الحلال والحرام لأهل الإيمان ، فإياهم عاتب ، وإياهم أمر إن أسرف أحدهم على نفسه أن لا يقنط من رحمة الله ، وأن ينيب ولا يبطئ بالتوبة من ذلك الإسراف والذنب الذي عمل ، وقد ذكر الله في سورة آل عمران المؤمنين حين سألوا الله المغفرة ، فقالوا : ( ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا   ) فينبغي أن يعلم  [ ص: 307 ] أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف ، فأمرهم بالتوبة من إسرافهم . 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى  وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد  في قول الله : ( الذين أسرفوا على أنفسهم   ) قال : قتل النفس في الجاهلية  . 
حدثنا ابن حميد  قال : ثنا سلمة  قال : ثني ابن إسحاق  ، عن بعض أصحابه ، عن  عطاء بن يسار  قال : نزلت هذه الآيات الثلاث بالمدينة  في وحشي  وأصحابه ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم   ) إلى قوله : ( من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون   )  . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : أخبرني أبو صخر  قال : قال  زيد بن أسلم  في قوله : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   ) قال : إنما هي للمشركين  . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد  ، عن قتادة  قوله : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم   ) حتى بلغ ( الذنوب جميعا   ) قال : ذكر لنا أن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يتاب عليهم ، فدعاهم الله بهذه الآية : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم   )  . 
حدثنا محمد  قال : ثنا أحمد  قال : ثنا أسباط  ، عن  السدي  في قوله : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم   ) قال : هؤلاء المشركون من أهل مكة  قالوا : كيف نجيبك وأنت تزعم أنه من زنى ، أو قتل ، أو أشرك بالرحمن كان هالكا من أهل النار ؟ فكل هذه الأعمال قد عملناها ، فأنزلت فيهم هذه الآية : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم   )  . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد  في قوله :  [ ص: 308 ]  ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   ) الآية . قال : كان قوم مسخوطين في أهل الجاهلية ، فلما بعث الله نبيه قالوا : لو أتينا محمدا   - صلى الله عليه وسلم - فآمنا به واتبعناه ، فقال بعضهم لبعض : كيف يقبلكم الله ورسوله فى دينه ؟ فقالوا : ألا نبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا ؟ فلما بعثوا ، نزل القرآن : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   ) فقرأ حتى بلغ : ( فأكون من المحسنين   )  . 
حدثنا ابن حميد  قال : ثنا جرير  ، عن منصور  ، عن الشعبي  قال : تجالس شتير بن شكل  ومسروق  فقال شتير   : إما أن تحدث ما سمعت من ابن مسعود  فأصدقك ، وإما أن أحدث فتصدقني فقال مسروق   : لا بل حدث فأصدقك . فقال : سمعت ابن مسعود  يقول : إن أكبر آية فرجا في القرآن ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   ) فقال مسروق   : صدقت  . 
وقال آخرون : بل عني بذلك أهل الإسلام ، وقالوا : تأويل الكلام : إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء ، قالوا : وهي كذلك في مصحف عبد الله ، وقالوا : إنما نزلت هذه الآية في قوم صدهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم ، فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري  قال : ثنا يحيى بن سعيد الأموي  ، عن ابن إسحاق  ، عن نافع  ، عن ابن عمر  قال : قال يعني عمر   : كنا نقول : ما لمن افتتن من توبة ، وكانوا يقولون : ما الله بقابل منا شيئا ، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة  أنزل الله فيهم : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   ) . . . الآية . قال عمر   : فكتبتها بيدي ، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص  قال هشام   : فلما جاءتني جعلت أقرؤها ولا أفهمها ، فوقع في نفسي أنها أنزلت فينا لما كنا  [ ص: 309 ] نقول ، فجلست على بعيري ، ثم لحقت بالمدينة   . 
حدثنا ابن حميد  قال : ثنا سلمة  قال : ثني محمد بن إسحاق  ، عن نافع  ، عن ابن عمر  قال : إنما أنزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة  ، والوليد بن الوليد  ، ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا ، فافتتنوا ، كنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا ، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه ، فنزلت هؤلاء الآيات ، وكان  عمر بن الخطاب  كاتبا ، قال : فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة  ، والوليد بن الوليد  ، إلى أولئك النفر ، فأسلموا وهاجروا  . 
حدثني يعقوب  قال : ثنا  ابن علية  قال : ثنا يونس  ، عن ابن سيرين  قال : قال علي  رضي الله عنه : أي آية في القرآن أوسع ؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما   ) . ونحوها ، فقال علي   : ما في القرآن آية أوسع من : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم   ) . . . إلى آخر الآية  . 
حدثنا أبو السائب  قال : ثنا أبو معاوية  ، عن الأعمش  ، عن أبي سعيد الأزدي  ، عن أبي الكنود  قال : دخل عبد الله  المسجد ، فإذا قاص يذكر النار والأغلال ، قال : فجاء حتى قام على رأسه ، فقال ما يذكر ، أتقنط الناس ؟ ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم   ) . . . الآية  . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : أخبرني أبو صخر  ، عن القرظي  أنه قال في هذه الآية : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   ) قال : هي للناس أجمعين . 
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة  قال : ثنا حجاج  قال : ثنا ابن لهيعة  ، عن أبي قنبل  قال : سمعت أبا عبد الرحمن المزني  يقول : ثني أبو عبد الرحمن الجلائي  أنه سمع ثوبان  مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها  [ ص: 310 ] بهذه الآية : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   ) " . . . الآية ، فقال رجل : يا رسول الله ، ومن أشرك ؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : " ألا ومن أشرك ، ألا ومن أشرك ، ثلاث مرات " . 
وقال آخرون : نزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار ، فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني ابن البرقي  قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة  قال : ثنا أبو معاذ الخراساني  ، عن مقاتل بن حيان  ، عن نافع  ، عن ابن عمر  قال : كنا معشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى أو نقول : إنه ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة ، حتى نزلت هذه الآية ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم   ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش ، قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا : قد هلك ، حتى نزلت هذه الآية ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء   ) فلما نزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه ، إن لم يصب منها شيئا رجونا له  . 
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى - تعالى ذكره - بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك ؛ لأن الله عم بقوله ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم   ) جميع المسرفين ، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف . 
فإن قال قائل : فيغفر الله الشرك ؟ قيل : نعم إذا تاب منه المشرك . وإنما عنى بقوله ( إن الله يغفر الذنوب جميعا   ) لمن يشاء ، كما قد ذكرنا قبل ، أن ابن مسعود  كان يقرؤه : وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه ، فقال : إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فأخبر أنه  [ ص: 311 ] لا يغفر الشرك إلا بعد توبة بقوله : ( إلا من تاب وآمن وعمل صالحا   ) . فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة ربه ، إن شاء تفضل عليه ، فعفا له عنه ، وإن شاء عدل عليه فجازاه به . 
وأما قوله : ( لا تقنطوا من رحمة الله   ) فإنه يعني : لا تيأسوا من رحمة الله . كذلك حدثني محمد بن سعد  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس   . 
وقد ذكرنا ما في ذلك من الروايات قبل فيما مضى وبينا معناه . 
وقوله : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا   ) يقول : إن الله يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها ( إنه هو الغفور الرحيم   ) بهم ، أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					