[ ص: 7 ] 
القول في تأويل قوله تعالى : ( حم   ( 1 ) والكتاب المبين   ( 2 ) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين    ( 3 ) فيها يفرق كل أمر حكيم   ( 4 ) أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين   ( 5 ) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم   ( 6 ) ) 
قد تقدم بياننا في معنى قوله ( حم والكتاب المبين   ) وقوله ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة   ) أقسم - جل ثناؤه - بهذا الكتاب أنه أنزله في ليلة مباركة . 
واختلف أهل التأويل في تلك الليلة ، أي ليلة من ليالي السنة هي ؟ فقال بعضهم : هي ليلة القدر . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة   ) : ليلة القدر ، ونزلت صحف إبراهيم  في أول ليلة من رمضان ، ونزلت التوراة لست ليال مضت من رمضان ، ونزل الزبور لست عشرة مضت من رمضان ، ونزل الإنجيل لثمان عشرة مضت من رمضان ، ونزل الفرقان لأربع وعشرين مضت من رمضان . 
حدثنا ابن عبد الأعلى  قال : ثنا ابن ثور  ، عن معمر ،  عن قتادة  في قوله ( في ليلة مباركة   ) قال : هي ليلة القدر .  [ ص: 8 ] 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد  في قوله - عز وجل - ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين   ) قال : تلك الليلة ليلة القدر ، أنزل الله هذا القرآن من أم الكتاب في ليلة القدر ، ثم أنزله على الأنبياء في الليالي والأيام ، وفي غير ليلة القدر . 
وقال آخرون : بل هي ليلة النصف من شعبان . 
والصواب من القول في ذلك قول من قال : عنى بها ليلة القدر ؛ لأن الله - جل ثناؤه - أخبر أن ذلك كذلك لقوله تعالى ( إنا كنا منذرين   ) خلقنا بهذا الكتاب الذي أنزلناه في الليلة المباركة عقوبتنا أن تحل بمن كفر منهم ، فلم ينب إلى توحيدنا ، وإفراد الألوهة لنا . 
وقوله ( فيها يفرق كل أمر حكيم   ) اختلف أهل التأويل في هذه الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم نحو اختلافهم في الليلة المباركة ، وذلك أن الهاء التي في قوله ( فيها ) عائدة على الليلة المباركة ، فقال بعضهم : هي ليلة القدر ، يقضى فيها أمر السنة كلها من يموت ، ومن يولد ، ومن يعز ، ومن يذل ، وسائر أمور السنة . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا مجاهد بن موسى  قال : ثنا يزيد  قال : أخبرنا ربيعة بن كلثوم  قال : كنت عند الحسن  فقال له رجل : يا أبا سعيد  ليلة القدر في كل رمضان ؟ قال : إي والله ، إنها لفي كل رمضان ، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، فيها يقضي الله كل أجل وأمل ورزق إلى مثلها . 
حدثني يعقوب  قال : ثنا  ابن علية  قال : ثنا ربيعة بن كلثوم  قال : قال رجل للحسن  وأنا أسمع : أرأيت ليلة القدر ، أفي كل رمضان هي ؟ قال :  [ ص: 9 ] نعم والله الذي لا إله إلا هو ، إنها لفي كل رمضان ، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، يقضي الله كل أجل وخلق ورزق إلى مثلها . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال عبد الحميد بن سالم  ، عن عمر مولى غفرة  قال : يقال : ينسخ لملك الموت من يموت ليلة القدر إلى مثلها ؛ وذلك لأن الله - عز وجل - يقول : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة   ) وقال ( فيها يفرق كل أمر حكيم   ) قال : فتجد الرجل ينكح النساء ، ويغرس الغرس واسمه في الأموات . 
حدثنا ابن بشار  قال : ثنا عبد الرحمن  قال : ثنا سفيان  ، عن سلمة  ، عن أبي مالك  في قوله : ( فيها يفرق كل أمر حكيم   ) قال : أمر السنة إلى السنة ما كان من خلق أو رزق أو أجل أو مصيبة ، أو نحو هذا . 
قال : ثنا سفيان  ، عن حبيب  ، عن هلال بن يساف  قال : كان يقال : انتظروا القضاء في شهر رمضان  . 
حدثنا الفضل بن الصباح  قال : ثنا  محمد بن فضيل  ، عن حصين  ، عن سعيد بن عبيدة  عن أبي عبد الرحمن  في قوله ( فيها يفرق كل أمر حكيم   ) قال : يدبر أمر السنة في ليلة القدر . 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى  ، وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد  قوله ( فيها يفرق كل أمر حكيم   ) قال : في ليلة القدر كل أمر يكون في السنة إلى السنة : الحياة والموت ، يقدر فيها المعايش والمصائب كلها . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة   ) ليلة القدر ( فيها يفرق كل أمر حكيم   ) كنا نحدث أنه يفرق فيها أمر السنة إلى السنة . 
حدثنا ابن عبد الأعلى  قال : ثنا ابن ثور  ، عن معمر ،  عن قتادة  قال : هي ليلة القدر فيها يقضى ما يكون من السنة إلى السنة .  [ ص: 10 ] 
حدثنا ابن حميد  قال : ثنا جرير  ، عن منصور  قال : سألت  مجاهدا  فقلت : أرأيت دعاء أحدنا يقول : اللهم إن كان اسمي في السعداء ، فأثبته فيهم ، وإن كان في الأشقياء فامحه منهم ، واجعله بالسعداء ؟ فقال : حسن ، ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر من ذلك ، فسألته عن هذا الدعاء ، قال : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم   ) قال : يقضى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة ، ثم يقدم ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ، فأما كتاب السعادة والشقاء فهو ثابت لا يغير . 
وقال آخرون : بل هي ليلة النصف من شعبان . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا الفضل بن الصباح  ،  والحسن بن عرفة  قالا : ثنا الحسن بن إسماعيل البجلي  ، عن محمد بن سوقة ،  عن عكرمة  في قول الله تبارك وتعالى ( فيها يفرق كل أمر حكيم   ) قال : في ليلة النصف من شعبان يبرم فيه أمر السنة ، وتنسخ الأحياء من الأموات ، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد ، ولا ينقص منهم أحد . 
حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس  قال : ثنا أبي ، قال : ثنا الليث  ، عن  عقيل بن خالد  ، عن ابن شهاب  ، عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  " تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى " . 
حدثني محمد بن معمر  قال : ثنا أبو هشام  قال : ثنا عبد الواحد  قال : ثنا عثمان بن حكيم  قال : ثنا سعيد بن جبير  قال : قال ابن عباس   : إن الرجل ليمشي في الناس وقد رفع في الأموات . قال : ثم قرأ هذه الآية ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم   ) قال : ثم قال : يفرق فيها أمر الدنيا من السنة إلى السنة . 
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك ليلة القدر لما قد  [ ص: 11 ] تقدم من بياننا عن أن المعني بقوله ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة   ) ليلة القدر ، والهاء في قوله ( فيها ) من ذكر الليلة المباركة . 
وعنى بقوله ( فيها يفرق كل أمر حكيم   ) في هذه الليلة المباركة يقضى ويفصل كل أمر أحكمه الله تعالى في تلك السنة إلى مثلها من السنة الأخرى ، ووضع حكيم موضع محكم ، كما قال : ( الم تلك آيات الكتاب الحكيم   ) يعني : المحكم . 
وقوله ( أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين   ) يقول - تعالى ذكره - : في هذه الليلة المباركة يفرق كل أمر حكيم ، أمرا من عندنا . 
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله ( أمرا ) فقال بعض نحويي الكوفة   : نصب على : إنا أنزلناه أمرا ورحمة على الحال . وقال بعض نحويي البصرة   : نصب على معنى يفرق كل أمر فرقا وأمرا . قال : وكذلك قوله ( رحمة من ربك   ) قال : ويجوز أن تنصب الرحمة بوقوع مرسلين عليها ، فجعل الرحمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - . 
وقوله ( إنا كنا مرسلين   ) يقول - تعالى ذكره - : إنا كنا مرسلي رسولنا محمد   - صلى الله عليه وسلم - إلى عبادنا رحمة من ربك يا محمد   ( إنه هو السميع العليم   ) يقول : إن الله - تبارك وتعالى - هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون فيما أنزلنا من كتابنا ، وأرسلنا من رسلنا إليهم ، وغير ذلك من منطقهم ومنطق غيرهم العليم بما تنطوي عليه ضمائرهم ، وغير ذلك من أمورهم وأمور غيرهم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					