" القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين   ( 8 ) )  
قال أبو جعفر :  أما قوله : " ومن الناس " ، فإن في "الناس " وجهين : 
أحدهما : أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه ، وإنما واحدهم "إنسان " ، وواحدتهم "إنسانة " . 
والوجه الآخر : أن يكون أصله "أناس " أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها ، ثم دخلتها الألف واللام المعرفتان ، فأدغمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون ، كما قيل في ( لكنا هو الله ربي   ) سورة الكهف : 38 ، على ما قد بينا في "اسم الله " الذي هو الله . وقد زعم بعضهم أن "الناس " لغة غير "أناس " ، وأنه سمع العرب تصغره "نويس " من الناس ، وأن الأصل لو كان "أناس" لقيل في التصغير : "أنيس" ، فرد إلى أصله . 
وأجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق  ، وأن هذه الصفة صفتهم .  [ ص: 269 ] 
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم : 
312 - حدثنا محمد بن حميد ،  قال : حدثنا سلمة  ، عن محمد بن إسحاق  ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت  ، عن عكرمة ،  أو عن سعيد بن جبير  ، عن ابن عباس   : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين   ) ، يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم . 
وقد سمي في حديث ابن عباس  هذا أسماؤهم عن أبي بن كعب  ، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم . 
313 - حدثنا الحسين بن يحيى  ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ،  قال : أنبأنا معمر  ، عن قتادة  في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين   ) ، حتى بلغ : ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين   ) قال : هذه في المنافقين . 
314 - حدثنا محمد بن عمرو الباهلي  ، قال : حدثنا أبو عاصم  ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون  ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ،  عن مجاهد  ، قال : هذه الآية إلى ثلاث عشرة ، في نعت المنافقين . 
315 - حدثني المثنى بن إبراهيم  ، قال : حدثنا أبو حذيفة  ، قال : حدثنا شبل  ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد ،  مثله . 
316 حدثنا سفيان  ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان  ، عن رجل ، عن مجاهد ،  مثله .  [ ص: 270 ] 
317 - حدثني موسى بن هارون  ، قال : حدثنا عمرو بن حماد  ، قال : حدثنا أسباط ،  عن إسماعيل السدي  في خبر ذكره ، عن أبي مالك ،  وعن أبي صالح ،  عن ابن عباس   - وعن مرة  ، عن ابن مسعود  ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين   ) هم المنافقون . 
318 - حدثني المثنى  ، قال : حدثنا إسحاق ،  عن ابن أبي جعفر  ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ،  في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر   ) إلى ( فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم   ) ، قال : هؤلاء أهل النفاق . 
319 - حدثنا القاسم  ، قال : حدثنا الحسين بن داود ،  قال : حدثني حجاج  ، عن  ابن جريج ،  في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين   ) قال : هذا المنافق ، يخالف قوله فعله ، وسره علانيته ومدخله مخرجه ، ومشهده مغيبه . 
وتأويل ذلك : أن الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمره في دار هجرته ، واستقر بها قراره ، وأظهر الله بها كلمته ، وفشا في دور أهلها الإسلام ، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان ، وذل بها من فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن ، وأبدوا له العداوة والشنآن ، حسدا وبغيا ، إلا نفرا منهم هداهم الله للإسلام فأسلموا ، كما قال جل ثناؤه : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق   ) سورة البقرة : 109 ، وطابقهم سرا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه  [ ص: 271 ] وبغيهم الغوائل ، قوم - من أراهط الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه - وكانوا قد عسوا في شركهم وجاهليتهم قد سموا لنا بأسمائهم ، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم ، وظاهروهم على ذلك في خفاء غير جهار ، حذار القتل على أنفسهم ، والسباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وركونا إلى اليهود  لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام . فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم - حذارا على أنفسهم - : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث ، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحق ، ليدرءوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك ، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم . وإذا لقوا إخوانهم من اليهود  وأهل الشرك والتكذيب بمحمد  صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، فخلوا بهم قالوا : ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون   ) . فإياهم عنى جل ذكره بقوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين   ) ، يعني بقوله تعالى خبرا عنهم : آمنا بالله - : وصدقنا بالله . 
وقد دللنا على أن معنى الإيمان : التصديق ، فيما مضى قبل من كتابنا هذا . 
وقوله : ( وباليوم الآخر   ) ، يعني : بالبعث يوم القيامة ، وإنما سمي يوم القيامة " اليوم الآخر " ، لأنه آخر يوم ، لا يوم بعده سواه .
فإن قال قائل : وكيف لا يكون بعده يوم ، ولا انقطاع للآخرة ولا فناء ، ولا زوال ؟  [ ص: 272 ] 
قيل : إن اليوم عند العرب إنما سمي يوما بليلته التي قبله ، فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسم يوما . فيوم القيامة يوم لا ليل بعده ، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة ، فذلك اليوم هو آخر الأيام . ولذلك سماه الله جل ثناؤه "اليوم الآخر " ، ونعته بالعقيم . ووصفه بأنه يوم عقيم ، لأنه لا ليل بعده . 
وأما تأويل قوله : " وما هم بمؤمنين   "  ، ونفيه عنهم جل ذكره اسم الإيمان ، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث ، وإعلام منه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم ، وضد ما في عزائم نفوسهم . 
وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية   : من أن الإيمان هو التصديق بالقول ، دون سائر المعاني  غيره . وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق ، أنهم قالوا بألسنتهم : " آمنا بالله وباليوم الآخر   " ، ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك . 
وقوله " وما هم بمؤمنين   " ، يعني بمصدقين " فيما يزعمون أنهم به مصدقون . 
				
						
						
