القول في تأويل قوله تعالى ( فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر  فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم   ) 
قال أبو جعفر   : وفي هذا الخبر من الله - تعالى ذكره - متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره . ومعنى الكلام : " إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين   " فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى  وآل هارون  تحمله الملائكة ، فصدقوا عند ذلك نبيهم وأقروا بأن الله قد بعث طالوت  ملكا عليهم ، وأذعنوا له بذلك . يدل على ذلك قوله : " فلما فصل طالوت بالجنود   " . وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له ؛ لأنه لم يكن ممن يقدر على إكراههم على ذلك ، فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها . 
وأما قوله : " فصل " فإنه يعني به : شخص بالجند ورحل بهم . 
وأصل " الفصل " القطع ، يقال منه : " فصل الرجل من موضع كذا وكذا " يعني به قطع ذلك ، فجاوزه شاخصا إلى غيره " يفصل فصولا " " وفصل العظم والقول من غيره ، فهو يفصله فصلا " إذا قطعه فأبانه ، " وفصل الصبي فصالا " إذا قطعه عن اللبن . " وقول فصل " يقطع فيفرق بين الحق والباطل لا يرد .  [ ص: 339 ] 
وقيل : إن طالوت  فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس  وهم ثمانون ألف مقاتل ، لم يتخلف من بني إسرائيل  عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته ، أو كبير لهرمه ، أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه . 
ذكر من قال ذلك : 
5707 - حدثنا ابن حميد  قال : حدثنا سلمة  ، عن ابن إسحاق  قال : حدثني بعض أهل العلم ، عن  وهب بن منبه  قال : خرج بهم طالوت  حين استوثقوا له ، ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة ، أو ضرير معذور ، أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها  . 
5708 - حدثني موسى  قال : حدثنا عمرو  قال : حدثنا أسباط  ، عن  السدي  قال : لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون  ، وسلموا ملك طالوت  ، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا  . 
قال أبو جعفر   : فلما فصل بهم طالوت  على ما وصفنا ، قال : " إن الله مبتليكم بنهر   " يقول : إن الله مختبركم بنهر ، ليعلم كيف طاعتكم له . 
وقد دللنا على أن معنى " الابتلاء " الاختبار فيما مضى بما أغنى عن إعادته . 
وبما قلنا في ذلك كان قتادة  يقول . 
5709 - حدثنا بشر بن معاذ  قال : حدثنا يزيد  قال : حدثنا سعيد  ، عن قتادة  في قول الله تعالى : " إن الله مبتليكم بنهر   " قال : إن الله يبتلي خلقه بما يشاء ؛ ليعلم من يطيعه ممن يعصيه  .  [ ص: 340 ] 
وقيل : إن طالوت  قال : " إن الله مبتليكم بنهر   " لأنهم شكوا إلى طالوت  قلة المياه بينهم وبين عدوهم ، وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا ، فقال لهم طالوت  حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله : " إن الله مبتليكم بنهر   " . 
ذكر من قال ذلك : 
5710 - حدثنا ابن حميد  قال : حدثنا سلمة  ، عن ابن إسحاق  قال : حدثني بعض أهل العلم ، عن  وهب بن منبه  قال : لما فصل طالوت  بالجنود قالوا : إن المياه لا تحملنا ، فادع الله لنا يجر لنا نهرا ! فقال لهم طالوت   : " إن الله مبتليكم بنهر   " الآية  . 
" والنهر " الذي أخبرهم طالوت  أن الله مبتليهم به ، قيل : هو نهر بين الأردن  وفلسطين   . 
ذكر من قال ذلك : 
5712 - حدثني المثنى  قال : حدثنا إسحاق  قال : حدثنا ابن أبي جعفر  ، عن أبيه ، عن الربيع  قال : " إن الله مبتليكم بنهر  ، قال الربيع   : ذكر لنا - والله أعلم - أنه نهر بين الأردن  وفلسطين   . 
5712 - حدثنا بشر  قال : حدثنا يزيد  قال : حدثنا سعيد  ، عن قتادة   : " إن الله مبتليكم بنهر   " قال : ذكر لنا أنه نهر بين الأردن  وفلسطين   . 
5713 - حدثنا الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا عبد الرزاق  قال : أخبرنا معمر  ، عن قتادة  قوله : " إن الله مبتليكم بنهر   " قال : هو نهر بين الأردن  وفلسطين   . 
5714 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني حجاج  ، عن  ابن جريج  ، عن ابن عباس   : فلما فصل طالوت  بالجنود غازيا إلى جالوت  ، قال طالوت  لبني إسرائيل   : " إن الله مبتليكم بنهر   " قال : نهر بين فلسطين  والأردن  ، نهر عذب الماء طيبه  .  [ ص: 341 ] 
وقال آخرون : بل هو نهر فلسطين   . 
ذكر من قال ذلك : 
5715 - حدثني محمد بن سعد  قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس  قال : " إن الله مبتليكم بنهر   " فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل ،  نهر فلسطين   . 
5716 - حدثني موسى  قال : حدثنا عمرو  قال : حدثنا أسباط  ، عن  السدي   : " إن الله مبتليكم بنهر   " هو نهر فلسطين   . 
وأما قوله : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم   " . فإنه خبر من الله - تعالى ذكره - عن طالوت  بما قال لجنوده ، إذ شكوا إليه العطش ، فأخبر أن الله مبتليهم بنهر ، ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر ، هو أن من شرب من مائه فليس هو منه يعني بذلك : أنه ليس من أهل ولايته وطاعته ، ولا من المؤمنين بالله وبلقائه . ويدل على أن ذلك كذلك قول الله - تعالى ذكره - : ( فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه   ) ، فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا ، ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت  وجنوده بقوله : ( قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله   ) ، وأخبرهم أنه من لم يطعمه يعني : من لم يطعم الماء من ذلك النهر . " والهاء " في قوله : " فمن شرب منه " وفي قوله : " ومن لم يطعمه " عائدة على " النهر "  [ ص: 342 ] والمعنى لمائه . وإنما ترك ذكر " الماء " اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك أن المراد به الماء الذي فيه . 
ومعنى قوله : " لم يطعمه " لم يذقه ، يعني : ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني يقول : هو من أهل ولايتي وطاعتي ، والمؤمنين بالله وبلقائه . ثم استثنى من " من " في قوله : " ومن لم يطعمه " المغترفين بأيديهم غرفة ، فقال : ومن لم يطعم ماء ذلك النهر إلا غرفة يغترفها بيده ، فإنه مني . 
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : " إلا من اغترف غرفة بيده " . 
فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة : ( غرفة ) بنصب " الغين " من " الغرفة " بمعنى الغرفة الواحدة ، من قولك ، " اغترفت غرفة " " والغرفة " " والغرفة " هي الفعل  [ ص: 343 ] بعينه من " الاغتراف " . 
وقرأه آخرون بالضم ، بمعنى الماء الذي يصير في كف المغترف . ف " الغرفة " الاسم " و " الغرفة " المصدر . 
وأعجب القراءتين في ذلك إلي ، ضم " الغين " في " الغرفة " بمعنى : إلا من اغترف كفا من ماء لاختلاف " غرفة " إذا فتحت غينها وما هي له مصدر . وذلك أن مصدر " اغترف " " اغترافة " وإنما " غرفة " مصدر : " غرفت " . فلما كانت : " غرفة " مخالفة مصدر " اغترف " كانت " الغرفة " التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا ، أشبه منها ب " الغرفة " التي هي بمعنى الفعل . 
قال أبو جعفر   : وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء ، فكان من شرب منه عطش ، ومن اغترف غرفة روي . 
ذكر من قال ذلك : 
5717 - حدثني بشر  قال : حدثنا يزيد  قال : حدثنا سعيد  ، عن قتادة   : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم   " فشرب القوم على قدر يقينهم . أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون ، وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه . 
5718 - حدثنا الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا عبد الرزاق  قال : أخبرنا معمر  ، عن قتادة   : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده   " قال : كان الكفار يشربون فلا يروون ، وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزيهم ذلك  .  [ ص: 344 ] 
5719 - حدثني المثنى  قال : حدثنا إسحاق  قال : حدثنا ابن أبي جعفر  ، عن أبيه ، عن الربيع   : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم   " يعني المؤمنين منهم . وكان القوم كثيرا ، فشربوا منه إلا قليلا منهم يعني المؤمنين منهم . كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه  . 
5720 - حدثني موسى  قال : حدثنا عمرو  قال : حدثنا أسباط  ، عن  السدي   : قال لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت  ، آمنوا بنبوة شمعون  ، وسلموا ملك طالوت  ، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا . وكان جالوت  من أعظم الناس وأشدهم بأسا ، فخرج يسير بين يدي الجند ، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي . فلما خرجوا قال لهم طالوت   : " إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني   " فشربوا منه هيبة من جالوت  ، فعبر منهم أربعة آلاف ، ورجع ستة وسبعون ألفا ، فمن شرب منه عطش ، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي  . 
5721 - حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد   : ألقى الله على لسان طالوت  حين فصل بالجنود ، فقال : لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد . فلم يتخلف عنه مؤمن ، ولم يتبعه منافق . رجعوا كفارا ؛ لكذبهم في قيلهم إذ قالوا : " لن نمس هذا الماء غرفة ولا غير " . وذلك  [ ص: 345 ] أنه قال لهم : " إن الله مبتليكم بنهر " الآية فقالوا : لن نمس من هذا غرفة ولا غير غرفة قال : وأخذ البقية الغرفة فشربوا منها حتى كفتهم ، وفضل منهم . قال : والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها . 
5722 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني حجاج  ، عن  ابن جريج  قال : قال ابن عباس  في قوله : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده   " فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه . فمن اغترف غرفة وأطاعه روي لطاعته . ومن شرب فأكثر عصى فلم يرو لمعصيته  . 
5723 - حدثنا ابن حميد  قال : حدثنا سلمة  ، عن ابن إسحاق  في حديث ذكره عن بعض أهل العلم ، عن  وهب بن منبه  في قوله : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده   " يقول الله - تعالى ذكره - : " فشربوا منه إلا قليلا منهم   " وكان - فيما يزعمون - من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه ، ومن لم يطعمه إلا كما أمر غرفة بيده ، أجزاه وكفاه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					