القول في تأويل قوله ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي    ) 
قال أبو جعفر   : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك . 
فقال بعضهم : نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار   - أو في رجل منهم - كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم ، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه ، فنهاهم الله عن ذلك ، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام . 
ذكر من قال ذلك : 
5812 - حدثنا  محمد بن بشار  قال : حدثنا ابن أبي عدي ،  عن شعبة ،   [ ص: 408 ] عن أبي بشر ،  عن سعيد بن جبير ،  عن ابن عباس  قال : كانت المرأة تكون مقلاتا ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده . فلما أجليت بنو النضير  كان فيهم من أبناء الأنصار ،  فقالوا : لا ندع أبناءنا ! فأنزل الله - تعالى ذكره - : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي   " . 
5813 - حدثنا ابن بشار  قال : حدثنا محمد بن جعفر  قال : حدثنا سعيد ،  عن أبي بشر ،  عن سعيد بن جبير  قال : كانت المرأة تكون مقلى ولا يعيش لها ولد - قال شعبة   : وإنما هو مقلات - فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهودنه . قال : فلما أجليت بنو النضير  كان فيهم منهم ، فقالت الأنصار   : كيف نصنع بأبنائنا ؟ فنزلت هذه الآية : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي   " . قال : من شاء أن يقيم أقام ، ومن شاء أن يذهب ذهب  . 
5814 - حدثنا حميد بن مسعدة  قال : حدثنا بشر بن المفضل  قال : حدثنا داود  وحدثني يعقوب  قال : حدثنا  ابن علية ،  عن داود  عن عامر  قال : كانت المرأة من الأنصار  تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد ، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم ، فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار  على دينهم ، فقالوا : إنما جعلناهم على دينهم ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ! وإذ جاء الله بالإسلام فلنكرهنهم ! فنزلت : " لا إكراه في الدين   " فكان  [ ص: 409 ] فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام ، فمن لحق بهم اختار اليهودية ، ومن أقام اختار الإسلام ولفظ الحديث لحميد   . 
5815 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى  قال : حدثنا معتمر بن سليمان  قال : سمعت داود ،  عن عامر ،  بنحو معناه إلا أنه قال : فكان فصل ما بينهم إجلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير ،  فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم ، وبقي من أسلم . 
5816 - حدثنا  ابن المثنى  قال : حدثنا عبد الأعلى  قال : حدثنا داود ،  عن عامر  بنحوه إلا أنه قال : إجلاء النضير  إلى خيبر ،  فمن اختار الإسلام أقام ، ومن كره لحق بخيبر   . 
5817 - حدثني ابن حميد  قال : حدثنا سلمة ،  عن أبي إسحاق ،  عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت  عن عكرمة ،  أو عن سعيد بن جبير ،  عن ابن عباس  قوله : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي   " قال : نزلت في رجل من الأنصار  من بني سالم بن عوف  يقال له الحصين  ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلا مسلما ، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك  . 
5818 - حدثني المثنى  قال : حدثنا حجاج بن المنهال  قال : حدثنا أبو عوانة ،  عن أبي بشر  قال : سألت سعيد بن جبير  عن قوله : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي   " قال : نزلت هذه في الأنصار ،  قال : قلت خاصة ! قال : خاصة ! قال : كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود ،  [ ص: 410 ] تلتمس بذلك طول بقائه . قال : فجاء الإسلام وفيهم منهم ، فلما أجليت النضير  قالوا : يا رسول الله ، أبناؤنا وإخواننا فيهم ، قال : فسكت عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - تعالى ذكره - : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي   " قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قد خير أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم " قال : فأجلوهم معهم  . 
5819 - حدثني موسى بن هارون  قال : حدثنا عمرو  قال : حدثنا أسباط ،  عن  السدي  قوله : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي   " إلى : " لا انفصام لها " قال : نزلت في رجل من الأنصار  يقال له أبو الحصين   : كان له ابنان ، فقدم تجار من الشام  إلى المدينة  يحملون الزيت . فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين  ، فدعوهما إلى النصرانية ، فتنصرا فرجعا إلى الشام  معهم . فأتى أبوهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إن ابني تنصرا وخرجا ، فأطلبهما ؟ فقال : " لا إكراه في الدين   " . 
ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب ، وقال : أبعدهما الله ! هما أول من كفر ! فوجد أبو الحصين  في نفسه على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين لم يبعث في طلبهما ، فنزلت : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما   ) [ سورة النساء : 65 ] ثم إنه نسخ : " لا إكراه في الدين   " فأمر بقتال أهل الكتاب في " سورة براءة "  .  [ ص: 411 ] 
5820 - حدثني محمد بن عمرو  قال : حدثنا أبو عاصم ،  عن عيسى ،  عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد  في قول الله : " لا إكراه في الدين   " قال : كانت في اليهود بني النضير ،  أرضعوا رجالا من الأوس ،  فلما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجلائهم ، قال أبناؤهم من الأوس   : لنذهبن معهم ، ولندينن بدينهم ! فمنعهم أهلوهم ، وأكرهوهم على الإسلام ، ففيهم نزلت هذه الآية  . 
5821 - حدثنا ابن وكيع  قال : حدثنا أبي ، عن سفيان  وحدثنا أحمد بن إسحاق  قال : حدثنا أبو أحمد  جميعا ، عن سفيان ،  عن خصيف ،  عن مجاهد   : " لا إكراه في الدين   " قال : كان ناس من الأنصار  مسترضعين في بني قريظة ،  فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام ، فنزلت : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي   "  . 
5822 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني الحجاج ،  عن  ابن جريج  قال : قال مجاهد   : كانت النضير  يهودا فأرضعوا ، ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو ،  عن أبي عاصم   . قال  ابن جريج   : وأخبرني عبد الكريم ،  عن مجاهد   : أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء الأوس ،  دانوا بدين النضير .  
5823 - حدثني المثنى  قال : لنا إسحاق  قال : حدثنا ابن أبي جعفر ،  عن أبيه ، عن  داود بن أبي هند ،  عن الشعبي   : أن المرأة من الأنصار  كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب ، فلما جاء الإسلام قالت الأنصار   :  [ ص: 412 ] يا رسول الله ألا نكره أولادنا الذين هم في يهود على الإسلام ، فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الأديان ؟ فأما إذ جاء الله بالإسلام أفلا نكرههم على الإسلام ؟ فأنزل الله - تعالى ذكره - : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي   "  . 
5824 - حدثت عن عمار  قال : حدثنا ابن أبي جعفر ،  عن أبيه ، عن داود ،  عن الشعبي  مثله ، وزاد قال : كان فصل ما بين من اختار اليهود  منهم وبين من اختار الإسلام إجلاء بني النضير ،  فمن خرج مع بني النضير  كان منهم ، ومن تركهم اختار الإسلام . 
5825 - حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد  في قوله : " لا إكراه في الدين   " إلى قوله : " العروة الوثقى " قال : قال منسوخ . 
5826 - حدثني سعيد بن الربيع الرازي  قال : حدثنا سفيان ،  عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد  ، ووائل  ، عن الحسن   : أن أناسا من الأنصار  كانوا مسترضعين في بني النضير ،  فلما أجلوا أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم ، فنزلت : " لا إكراه في الدين   "  . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية ، ولكنهم يقرون على دينهم . وقالوا : الآية في خاص من الكفار ، ولم ينسخ منها شيء . 
ذكر من قال ذلك : 
5827 - حدثنا بشر بن معاذ  قال : حدثنا يزيد  قال : حدثنا سعيد ،  عن  [ ص: 413 ] قتادة   : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي   " قال : أكره عليه هذا الحي من العرب ؛ لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه ، فلم يقبل منهم غير الإسلام . ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج ، ولم يفتنوا عن دينهم ، فيخلى عنهم  . 
5828 - حدثنا  محمد بن بشار  قال : حدثنا سليمان  قال : حدثنا أبو هلال  قال : حدثنا قتادة  في قوله : " لا إكراه في الدين   " قال : هو هذا الحي من العرب أكرهوا على الدين ، لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام ، وأهل الكتاب قبلت منهم الجزية ، ولم يقتلوا  . 
5829 - حدثنا ابن حميد  قال : حدثنا الحكم بن بشير  قال : حدثنا عمرو بن قيس ،  عن جويبر ،  عن الضحاك  في قوله : " لا إكراه في الدين   " قال : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان ، فلم يقبل منهم إلا " لا إله إلا الله " أو السيف . ثم أمر في من سواهم بأن يقبل منهم الجزية ، فقال : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي   "  . 
5830 - حدثنا الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا عبد الرزاق  قال : أخبرنا معمر ،  عن قتادة  في قوله : " لا إكراه في الدين   " قال : كانت العرب ليس لها دين ، فأكرهوا على الدين بالسيف . قال : ولا يكره اليهود  ولا النصارى  والمجوس  ، إذا أعطوا الجزية  . 
5831 - حدثنا الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا عبد الرزاق  قال : أخبرنا ابن عيينة ،  عن ابن أبي نجيح  قال : سمعت  مجاهدا  يقول لغلام له نصراني : يا جرير  أسلم . ثم قال : هكذا كان يقال لهم  . 
5832 - حدثني محمد بن سعد  قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال :  [ ص: 414 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس   : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي   " قال : وذلك لما دخل الناس في الإسلام ، وأعطى أهل الكتاب الجزية  . 
وقال آخرون : هذه الآية منسوخة ، وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال . 
ذكر من قال ذلك : 
5833 - حدثني  يونس بن عبد الأعلى  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري  قال : سألت  زيد بن أسلم  عن قول الله - تعالى ذكره - : " لا إكراه في الدين   " قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة  عشر سنين لا يكره أحدا في الدين ، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم ، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له  . 
قال أبو جعفر   : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآية في خاص من الناس - وقال : عنى بقوله - تعالى ذكره - : " لا إكراه في الدين   " أهل الكتابين والمجوس  وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق ، وأخذ الجزية منه ، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا . 
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ؛ لما قد دللنا عليه في كتابنا ( كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام ) : من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ ، فلم يجز اجتماعهما . فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي ، وباطنه الخصوص ، فهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل . 
وإذ كان ذلك كذلك - وكان غير مستحيل أن يقال : لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين ، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك ، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أنه  [ ص: 415 ] أكره على الإسلام قوما فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام ، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه ، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب ، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم ، وأنه ترك إكراه الآخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل ، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم - كان بينا بذلك أن معنى قوله : " لا إكراه في الدين   " إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ، ورضاه بحكم الإسلام . 
ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم ، بالإذن بالمحاربة . 
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما روي عن ابن عباس  وعمن روي عنه من أنها نزلت في قوم من الأنصار  أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام ؟ 
قلنا : ذلك غير مدفوعة صحته ، ولكن الآية قد تنزل في خاص من الأمر ، ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه . فالذين أنزلت فيهم هذه الآية - على ما ذكر ابن عباس  وغيره - إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم ، فنهى الله - تعالى ذكره - عن إكراههم على الإسلام ، وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم ، ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها ، وإقرارهم عليها ، على النحو الذي قلنا في ذلك . 
قال أبو جعفر   : ومعنى قوله : " لا إكراه في الدين   " . لا يكره أحد في دين الإسلام عليه ، وإنما أدخلت " الألف واللام " في " الدين " تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله لا إكراه فيه ، وأنه هو الإسلام .  [ ص: 416 ] 
وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من " الهاء " المنوية في " الدين " فيكون معنى الكلام حينئذ : وهو العلي العظيم ، لا إكراه في دينه ، قد تبين الرشد من الغي . وكأن هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي . 
قال أبو جعفر   : وأما قوله : " قد تبين الرشد " فإنه مصدر من قول القائل : " رشدت فأنا أرشد رشدا ورشدا ورشادا " وذلك إذا أصاب الحق والصواب . 
وأما " الغي " فإنه مصدر من قول القائل : " قد غوى فلان فهو يغوى غيا وغواية " وبعض العرب يقول : " غوي فلان يغوى " والذي عليه قراءة القرأة : ( ما ضل صاحبكم وما غوى   ) [ سورة النجم : 2 ] بالفتح ، وهي أفصح اللغتين ، وذلك إذا عدا الحق وتجاوزه ، فضل . 
فتأويل الكلام إذا : قد وضح الحق من الباطل ، واستبان لطالب الحق والرشاد وجه مطلبه ، فتميز من الضلالة والغواية ، فلا تكرهوا من أهل الكتابين - ومن أبحت لكم أخذ الجزية منه - [ أحدا ] على دينكم دين الحق ، فإن من حاد عن الرشاد بعد استبانته له ، فإلى ربه أمره ، وهو ولي عقوبته في معاده . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					