( والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين    ( 170 ) وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون    ( 171 ) وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين    ( 172 ) ) 
( والذين يمسكون بالكتاب    ) قرأ أبو بكر  عن عاصم    : " يمسكون " بالتخفيف ، وقراءة العامة بالتشديد ، لأنه يقال : مسكت بالشيء ، ولا يقال أمسكت بالشيء ، إنما يقال : أمسكته ، وقرأ أبي بن كعب    : " والذين تمسكوا بالكتاب " ، على الماضي وهو جيد لقوله تعالى : ( وأقاموا الصلاة    ) إذ قل ما يعطف ماض على مستقبل إلا في المعنى ، وأراد الذين يعملون بما في الكتاب ، قال مجاهد    : هم المؤمنون من أهل الكتاب ،  عبد الله بن سلام  وأصحابه ، تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى  فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة . وقال عطاء : هم أمة محمد    - صلى الله عليه وسلم - . ( وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين    ) 
قوله تعالى : ( وإذ نتقنا الجبل فوقهم    ) أي : فلقنا الجبل ، وقيل : رفعناه ( كأنه ظلة    ) قال عطاء    : سقيفة ، والظلة : كل ما أظلك ، ( وظنوا ) علموا ( أنه واقع بهم خذوا    ) أي : وقلنا لهم خذوا ، ( ما آتيناكم بقوة    ) بجد واجتهاد ، ( واذكروا ما فيه    ) واعملوا به ، ( لعلكم تتقون    ) وذلك حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ، فرفع الله على رءوسهم جبلا . قال الحسن    : فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من أن يسقط عليه ، ولذلك لا تجد يهوديا إلا ويكون سجوده على حاجبه الأيسر . 
قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم     ) الآية . 
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي  ، أنا زاهر بن أحمد  ، أنا أبو إسحاق الهاشمي  ، أنا أبو مصعب  ، عن مالك  ، عن  زيد بن أبي أنيسة  ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن  ، عن زيد بن   [ ص: 298 ] الخطاب  أخبره عن مسلم بن يسار الجهني  أن  عمر بن الخطاب  رضي الله عنه سئل عن هذه الآية : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم    ) الآية . قال  عمر بن الخطاب    : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عنها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله - عز وجل - خلق آدم  ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل : ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله - عز وجل - إذا خلق العبد للجنة استعمله للجنة بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار   " وقال أبو عيسى    : هذا حديث حسن . ومسلم بن يسار  لم يسمع من عمر  ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار  وعمر  رجلا . 
قال مقاتل  وغيره من أهل التفسير : إن الله مسح صفحة ظهر آدم  اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون ، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر ، فقال : يا آدم  هذه ذريتك ، ثم قال لهم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى ، فقال للبيض : هؤلاء في الجنة برحمتي ولا أبالي وهم أصحاب اليمين ، وقال للسود : هؤلاء في النار ولا أبالي ، وهم أصحاب الشمال ، ثم أعادهم جميعا في صلبه ، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء . قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول : " وما وجدنا لأكثرهم من عهد    " الأعراف - 102 . 
وقال بعض أهل التفسير : إن أهل السعادة أقروا طوعا وقالوا : بلى ، وأهل الشقاوة قالوه تقية وكرها ، وذلك معنى قوله : " وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها    " آل عمران - 83 . 
واختلفوا في موضع الميثاق    ; قال ابن عباس  رضي الله عنهما : ببطن نعمان    - واد إلى جنب   [ ص: 299 ] عرفة - وروي عنه أيضا : أنه بدهناء من أرض الهند  وهو الموضع الذي هبط آدم  عليه السلام عليه . وقال الكلبي    : بين مكة  والطائف  ، وقال  السدي    : أخرج الله آدم  عليه السلام من الجنة فلم يهبط من السماء ثم مسح ظهره فأخرج ذريته . وروي : أن الله أخرجهم جميعا وصورهم وجعل لهم عقولا يعلمون بها وألسنا ينطقون بها ثم كلمهم قبلا - يعني عيانا - وقال ألست بربكم؟ وقال الزجاج  وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذر فهما تعقل به ، كما قال تعالى : " قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم    " النمل - 18 . 
وروي أن الله تعالى قال لهم جميعا : اعلموا أنه لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئا ، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي ، وإني مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي ، ومنزل عليكم كتبا ، فتكلموا جميعا ، وقالوا : شهدنا أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ، فأخذ بذلك مواثيقهم ، ثم كتب آجالهم وأرزقاهم ومصائبهم ، فنظر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : رب لولا سويت بينهم؟ قال : إني أحب أن أشكر ، فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعادهم إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه فذلك قوله تعالى : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم    " أي : من ظهور بني آدم ذريتهم ، قرأ أهل المدينة  وأبو عمرو  وابن عامر    : " ذرياتهم " بالجمع وكسر التاء ، وقرأ الآخرون " ذريتهم " على التوحيد ، ونصب التاء . 
فإن قيل : ما معنى قوله " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم    " وإنما أخرجهم من ظهر آدم؟   قيل : إن الله أخرج ذرية آدم  بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء في الترتيب ، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم  لما علم أنهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره   [ ص: 300 ] 
قوله تعالى : ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى    ) أي : أشهد بعضهم على بعض : ( شهدنا أن تقولوا    ) قرأ أبو عمرو    : " أن يقولوا " ويقولوا بالياء فيهما ، وقرأ الآخرون بالتاء فيهما . 
واختلفوا في قوله : " شهدنا " قال  السدي    : هو خبر من الله عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم . وقال بعضهم : هو خبر عن قول بني آدم حين أشهد الله بعضهم على بعض ، فقالوا بلى شهدنا . وقال الكلبي    : ذلك من قول الملائكة ، وفيه حذف تقديره : لما قالت الذرية : بلى قال الله للملائكة : اشهدوا ، قالوا : شهدنا ، قوله : " أن يقولوا " يعني : وأشهدهم على أنفسهم أن يقولوا ، أي : لئلا يقولوا أو كراهية أن يقولوا ، ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام : أخاطبكم : ألست بربكم لئلا تقولوا : ( يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين    ) أي : عن هذا الميثاق والإقرار ، فإن قيل : كيف تلزم الحجة على أحد لا يذكر الميثاق؟ قيل : قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا ، فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة ، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					