ذكر أول المحنة 
في هذه السنة كتب المأمون  إلى نائبه ببغداد  إسحاق بن إبراهيم بن مصعب  يأمره أن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن ، وأن يرسل إليه جماعة منهم إلى الرقة  ونسخة كتاب المأمون  إلى نائبه مطولة ، قد سردها ابن   [ ص: 208 ] جرير  ومضمونها الاحتجاج على أن القرآن محدث وليس بقديم ، وعنده أن كل محدث فهو مخلوق ، وهذا أمر لا يوافقه عليه كثير من المتكلمين ولا المحدثين ، فإن القائلين بأن الله تعالى تقوم به الأفعال الاختيارية لا يقولون بأن فعله تعالى القائم بذاته المقدسة - بعد أن لم يكن - مخلوق ، بل يقولون : هو محدث وليس بمخلوق . بل هو كلام الله تعالى القائم بذاته المقدسة ، وما كان قائما بذاته لا يكون مخلوقا ، وقد قال الله تعالى : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث    [ الأنبياء : 2 ] وقال تعالى : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم    [ الأعراف : 11 ] فالأمر بالسجود لآدم  صدر منه تعالى بعد خلق آدم ،  فالكلام القائم بالذات ليس مخلوقا ، وهذا له موضع آخر . وقد صنف  البخاري    - رحمه الله - كتابا في هذا المعنى سماه " " خلق أفعال العباد " " . 
والمقصود : أن كتاب المأمون  لما ورد بغداد  قرئ على الناس ، وقد عين المأمون  جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه ، وهم محمد بن سعد  كاتب الواقدي ،  وأبو مسلم  مستملي  يزيد بن هارون   ويحيى بن معين ،   وأبو خيثمة زهير بن حرب ،  وإسماعيل بن داود ،  وإسماعيل بن أبي مسعود ،  وأحمد بن إبراهيم   [ ص: 209 ] الدورقي    . فبعث بهم إلى المأمون  إلى الرقة  فامتحنهم بالقول بخلق القرآن ، فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقته ، وهم كارهون ، فردهم إلى بغداد  وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء ، ففعل إسحاق بن إبراهيم  ذلك ، وأحضر خلقا من مشايخ الحديث والفقهاء ، والقضاة وأئمة المساجد وغيرهم ، فدعاهم الى ذلك عن أمر المأمون  وذكر لهم موافقة أولئك المحدثين له على ذلك ، فأجابوا بمثل جواب أولئك موافقة لهم ، ووقعت بين الناس فتنة عظيمة فإنا لله وإنا إليه راجعون . 
ثم كتب المأمون  كتابا ثانيا إلى إسحاق  يستدل فيه على القول بخلق القرآن بشبه من الدلائل لا تحقيق تحتها ، ولا حاصل لها بل هي من المتشابهات ، وأورد من القرآن آيات هي حجة عليه لا له وقد أورده ابن جرير  بطوله وأمره أن يقرأ ذلك على الناس ، وأن يدعوهم إليه وإلى القول بخلق القرآن ،  فأحضر إسحاق بن إبراهيم  جماعة من الأئمة ؛ وهم  أحمد بن حنبل ،  وقتيبة ،   وأبو حسان الزيادي ،   وبشر بن الوليد الكندي ،  وعلي بن أبي مقاتل ،  وسعدويه الواسطي ،   وعلي بن الجعد ،   وإسحاق بن أبي إسرائيل ،  وابن الهرش ،  وابن علية الأكبر ،  ويحيى بن عبد الحميد العمري ،  وشيخ آخر من سلالة عمر   [ ص: 210 ] كان قاضيا على الرقة  وأبو نصر التمار ،  وأبو معمر القطيعي ،  ومحمد بن حاتم بن ميمون ،   ومحمد بن نوح الجنديسابوري المضروب ،  وابن الفرخان ،   والنضر بن شميل ،  وابن علي بن عاصم ،  وأبو العوام البزاز ،  وأبو شجاع ،  وعبد الرحمن بن إسحاق  وجماعة . فلما دخلوا على إسحاق بن إبراهيم  قرأ عليهم كتاب المأمون  فلما فهموه قال  لبشر بن الوليد    : ما تقول في القرآن ؟ فقال : هو كلام الله . قال : ليس عن هذا أسألك ، وإنما أسألك أهو مخلوق ؟ قال : ليس بخالق . قال : ولا عن هذا أسألك . فقال : ما أحسن غير هذا . وصمم على ذلك . فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله أحدا فردا لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ؟ قال : نعم . فقال للكاتب : اكتب بما قال . فكتب ، ثم امتحنهم رجلا رجلا ، فأكثرهم امتنع من القول بخلق القرآن ، فكان إذا امتنع الرجل منهم يمتحنه بما في الرقعة التي وافق عليها  بشر بن الوليد الكندي ،  من أنه تعالى لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه فيقول : نعم . كما قال بشر    . 
 [ ص: 211 ] ولما انتهت النوبة إلى امتحان  أحمد بن حنبل ،  فقال له : أتقول إن القرآن مخلوق ؟ فقال : القرآن كلام الله ،  لا أزيد على هذا . فقال له : ما تقول في هذه الرقعة ؟ فقال : أقول ليس كمثله شيء وهو السميع البصير    [ الشورى : 11 ] فقال رجل من المعتزلة    : إنه يقول سميع بأذن بصير بعين . فقال له إسحاق    : ما أردت بقولك سميع بصير ؟ فقال : أردت منها ما أراده الله منها ، وهو كما وصف نفسه ، ولا أزيد على ذلك . فكتب جوابات القوم رجلا رجلا ، وبعث بها إلى المأمون    . 
فصل : قد تقدم أن إسحاق بن إبراهيم  نائب بغداد  لما امتحن الجماعة في القول بخلق القرآن ، ونفى التشبيه ، فأجابوا كلهم إلى نفي المماثلة ، وأما القول بخلق القرآن فامتنعوا من ذلك وقالوا كلهم : القرآن كلام الله . قال  الإمام أحمد    : ولا أزيد على هذا حرفا أبدا وقرأ في نفي المماثلة قوله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير    [ الشورى : 11 ] فقالوا : ما أردت بقولك السميع البصير ؟ فقال : أردت منها ما أراده الله منها ، وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرها ؛ لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه ، وإن كان له رزق على بيت المال قطع ، وإن كان مفتيا منع من الإفتاء ، وإن كان شيخ حديث ردع عن الإسماع والأداء ، ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم العزيز الحكيم . 
 [ ص: 212 ] 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					