[ ص: 275 ] ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين 
في جمادى الآخرة من هذه السنة وثب أهل حمص  أيضا على عاملهم محمد بن عبدويه   فأرادوا قتله ، وساعدهم نصارى  أهلها أيضا عليه ، فكتب إلى الخليفة يعلمه بذلك ، فكتب إليه يأمره بمناهضتهم ، وكتب إلى متولي دمشق  أن يمده بجيش من عنده ; ليساعده على أهل حمص  وكتب إليه أن يضرب ثلاثة منهم معروفين بالشر بالسياط حتى يموتوا ، ثم يصلبهم على أبواب البلد ، وأن يضرب عشرين آخرين منهم ; كل واحد ثلاثمائة ثلاثمائة ، وأن يرسلهم إلى سامرا مقيدين في الحديد ، وأن يخرج كل نصراني بها ، ويهدم كنيستها العظمى التي إلى جانب المسجد الجامع ، ويضيفها إليه ، وأمر له بخمسين ألف درهم ، وللأمراء الذين ساعدوه بصلات سنية ، فامتثل ما أمره به الخليفة فيهم . 
وفيها أمر الخليفة المتوكل على الله  بضرب رجل من أعيان أهل بغداد  يقال له : عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم ،  فضرب ضربا شديدا مبرحا ، يقال : إنه ضرب ألف سوط حتى مات . وذلك أنه شهد عليه سبعة عشر رجلا عند   [ ص: 376 ] قاضي الشرقية أبي حسان الزيادي  أنه يشتم أبا بكر  وعمر   وعائشة   وحفصة  رضي الله عنهم أجمعين ، فرفع أمره إلى الخليفة ، فجاء كتاب الخليفة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين ،  نائب بغداد  يأمره أن يضرب هذا الرجل بين الناس حد السب  ، ثم يضرب بالسياط حتى يموت ، ويلقى في دجلة ولا يصلى عليه ، ليرتدع بذلك أهل الإلحاد والمعاندة . ففعل معه ذلك ، قبحه الله ولعنه . 
ومثل هذا يكفر إن كان قد قذف عائشة  أم المؤمنين  بالإجماع ، وفي من قذف سواها من أمهات المؤمنين قولان ، والصحيح أنه يكفر أيضا ; لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي عنهن . 
قال ابن جرير  وفي هذه السنة انقضت الكواكب ببغداد  وتناثرت ، وذلك ليلة الخميس ، لليلة خلت من جمادى الآخرة . قال : وفيها مطر الناس في آب مطرا شديدا جدا . قال : وفيها مات شيء كثير من الدواب والبقر . قال : وفيها أغارت الروم  على عين زربة ،  فأسروا من بها من الزط وأخذوا نساءهم وذراريهم ودوابهم . قال : وفيها الفداء بين المسلمين والروم  في بلاد طرسوس  بحضرة قاضي القضاة جعفر بن عبد الواحد ،  عن إذن الخليفة له في ذلك ، واستنابته ابن أبي الشوارب    . وكانت عدة الأسرى من المسلمين سبعمائة وخمسة وثمانين رجلا ، ومن النساء مائة وخمسا وعشرين امرأة ، وقد كانت أم الملك تدورة لعنها الله عرضت النصرانية  على من كان في يدها من الأسارى وكانوا نحوا من عشرين ألفا فمن أجابها إلى النصرانية   [ ص: 377 ] وإلا قتلته فقتلت اثني عشر ألفا ، وتنصر بعضهم ، وبقي منهم هؤلاء الذين فدوا ، وهم قريب من التسعمائة ; رجالا ونساء . 
وفيها أغارت البجة  على حرس من أرض مصر ،  وقد كانت البجة  لا يغزون المسلمين قبل هذا ; لهدنة كانت لهم من المسلمين فنقضوا الهدنة وصرحوا بالمخالفة . 
والبجة  طائفة من سودان بلاد المغرب ،  وكذا النوبة  والفروية  وبينوز ،  وزعروين ،  ويكسوم ،  وأمم كثيرون لا يعلمهم إلا الله الذي خلقهم . وفي بلاد هؤلاء معادن الذهب والجوهر ، وكان عليهم حمل في كل سنة إلى ديار مصر  من هذه المعادن ، فلما كانت دولة المتوكل  امتنعوا من أداء ما عليهم سنين متعددة ، فكتب نائب مصر  وهو يعقوب بن إبراهيم الباذغيسي مولى الهادي وهو المعروف بقوصرة    - بذلك كله إلى المتوكل ،  فغضب المتوكل  من ذلك غضبا شديدا ، وشاور في أمر البجة ،  فقيل له : يا أمير المؤمنين ، إنهم قوم أهل إبل وبادية وإن بلادهم بعيدة ومعطشة ، ويحتاج الجيش الذاهبون إليها أن يتزودوا   [ ص: 378 ] لمقامهم بها طعاما وماء . فصده ذلك عن البعث إليهم ، ثم بلغه أنهم يغيرون على أطراف الصعيد ، وخشي أهل مصر  على أنفسهم منهم ، فجهز لحربهم محمد بن عبد الله القمي ،  وجعل إليه نيابة تلك البلاد كلها المتاخمة لأرضهم ، وكتب إلى عمال مصر  أن يعينوه بجميع ما يحتاج إليه من الطعام وغير ذلك ، فتخلص معه من الجيوش الذين انضافوا إليه من تلك البلاد حتى دخل بلادهم في عشرين ألف فارس وراجل ، وحمل معه الطعام والإدام في مراكب سبعة ، وأمر الذين هم بها أن يلججوا بها في البحر ، ثم يوافوه بها إذا توسط بلاد البجة ،  ثم سار حتى دخل بلادهم ، وجاوز معادنهم ، وأقبل إليه ملك البجة  واسمه : علي بابا  في جمع عظيم أضعاف من مع محمد بن عبد الله القمي ،  وهم قوم مشركون يعبدون الأصنام ، فجعل الملك يطاول المسلمين في القتال لعله تنفد أزوادهم فيأخذونهم بالأيدي ، فلما نفد ما عند المسلمين وطمع فيهم السودان  يسر الله وله الحمد بوصول تلك المراكب وفيها من الطعام والتمر والزيت وغير ذلك مما يحتاجون إليه شيء كثير جدا ، فقسمه الأمير بين المسلمين بحسب حاجاتهم ، فيئس السودان  من هلاك المسلمين جوعا ، فشرعوا في التأهب لقتال المسلمين ، وكانوا يركبون على إبل شبيهة بالهجن زعرة جدا كثيرة النفار ، لا تكاد ترى شيئا ، ولا تسمع شيئا إلا جفلت منه . فلما كان   [ ص: 379 ] يوم الحرب عمد الأمير إلى جميع الأجراس التي معهم في الجيش فجعلها في رقاب الخيل ، فلما كانت الوقعة حمل المسلمون حملة رجل واحد ، فهرب السودان  فرار رجل واحد ، ونفرت إبلهم من أصوات تلك الأجراس في كل وجه ، وتفرقوا شذر مذر ، واتبعهم المسلمون يقتلون من شاءوا ، لا يمتنع منهم أحد فلا يعلم عدد من قتل منهم إلا الله عز وجل ، ثم أصبحوا وقد اجتمعوا رجالة ، فكسبهم القمي  من حيث لا يشعرون فقتل عامة من بقي منهم ، وأخذ الملك بالأمان ، وأدى ما كان عليه من الحمل ، وأخذه معه أسيرا إلى الخليفة ، وكانت هذه الوقعة في أول يوم من هذه السنة وكان وصوله إلى الخليفة في أواخر هذه السنة ، فولاه الخليفة على بلاده كما كان ، وجعل إلى ابن القمي  أمر تلك الناحية ، والنظر في أمرها ، ولله الحمد والمنة . 
قال ابن جرير    : ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة  في جمادى الآخرة . قلت : وهذا الرجل كان نائبا على الديار المصرية  من جهة المتوكل على الله  وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن محمد بن داود ،  وحج جعفر بن دينار  فيها وهو والي طريق مكة  وأحداث الموسم . 
 [ ص: 380 ] ولم يتعرض ابن جرير  لوفاة أحد من المحدثين في هذه السنة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					