[ ص: 616 ] فصل مبايعة النبي الناس يوم الفتح  
قال الإمام أحمد    : حدثنا عبد الرزاق ،  ثنا  ابن جريج  أنبأنا عبد الله بن عثمان بن خثيم ،  أن محمد بن الأسود بن خلف  أخبره أن أباه الأسود رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح . قال : جلس عند قرن مسقلة ، فبايع الناس على الإسلام والشهادة . قال : قلت : وما الشهادة ؟ قال : أخبرني محمد بن الأسود بن خلف  أنه بايعهم على الإيمان بالله ، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا  عبده ورسوله . تفرد به أحمد  وعند  البيهقي    : فجاءه الناس ، الكبار والصغار ، والرجال والنساء ، فبايعهم على الإسلام والشهادة . 
وقال ابن جرير  ثم اجتمع الناس بمكة  لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، فجلس لهم - فيما بلغني - على الصفا ،  وعمر بن الخطاب  أسفل من مجلسه ، فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا . قال : فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء ، وفيهن هند بنت عتبة   [ ص: 617 ] متنقبة متنكرة بحديثها ، لما كان من صنيعها بحمزة ،  فهي تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدثها ذلك ، فلما دنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعهن قال : " بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا " فقالت هند    : والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال . قال : " ولا تسرقن " . فقالت : والله إني كنت أصبت من مال أبي سفيان  الهنة بعد الهنة ، وما كنت أدري أكان ذلك علينا حلالا لي أم لا ؟ فقال أبو سفيان ،  وكان شاهدا لما تقول : أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وإنك لهند بنت عتبة ؟    ! " قالت : نعم ، فاعف عما سلف ، عفا الله عنك . ثم قال : " ولا تزنين " فقالت : يا رسول الله ، وهل تزني الحرة ؟! ثم قال : " ولا تقتلن أولادكن " . قالت : قد ربيناهم صغارا ، وقتلتهم ببدر كبارا ، فأنت وهم أعلم . فضحك عمر بن الخطاب  حتى استغرب ، ثم قال : " ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن " . فقالت : والله إن إتيان البهتان لقبيح ، ولبعض   [ ص: 618 ] التجاوز أمثل . ثم قال : " ولا تعصينني " . فقالت : في معروف . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر    : " بايعهن واستغفر لهن الله ، إن الله غفور رحيم فبايعهن عمر  ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء ، ولا يمس إلا امرأة أحلها الله له ، أو ذات محرم منه . 
وثبت في " الصحيحين " عن عائشة ،  رضى الله عنها ، أنها قالت : لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط . وفي رواية : ما كان يبايعهن إلا كلاما ويقول : إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة   . 
وفي " الصحيحين " عن عائشة ،  أن هند بنت عتبة  امرأة أبي سفيان  أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان  رجل شحيح ، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني ، فهل علي من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه ؟ قال : " خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك   . 
وروى  البيهقي ،  من طريق يحيى بن بكير ،  عن الليث ،  عن يونس ،  عن ابن شهاب ،  عن عروة ،  عن عائشة ،  أن هند بنت عتبة  قالت :   [ ص: 619 ] يا رسول الله ، ما كان مما على وجه الأرض أخباء أو أهل خباء - الشك من ابن بكير - أحب إلي من أن يذلوا من أهل أخبائك - أو خبائك - ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل أخباء - أو خباء - أحب إلي من أن يعزوا من أهل أخبائك - أو خبائك - . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأيضا والذي نفس محمد  بيده " . قالت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل مسيك ، فهل علي حرج أن أطعم من الذي له ؟ قال : " لا ، إلا بالمعروف ورواه  البخاري ،  عن يحيى بن بكير  بنحوه ، وتقدم ما يتعلق بإسلام أبي سفيان .  
وقال أبو داود    : ثنا  عثمان بن أبي شيبة ،  ثنا جرير  ، عن منصور ،  عن مجاهد ،  عن طاوس ،  عن ابن عباس  قال   : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة   :  لا هجرة ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا ورواه  البخاري ،  عن  عثمان بن أبي شيبة  ومسلم ،  عن يحيى بن يحيى ،  عن جرير    .   [ ص: 620 ] 
وقال الإمام أحمد    : ثنا عفان ،  ثنا وهيب ،  ثنا ابن طاوس ،  عن أبيه ، عن صفوان بن أمية  أنه قيل له : إنه لا يدخل الجنة إلا من هاجر . فقلت له : لا أدخل منزلي حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله . فأتيته فذكرت له فقال : لا هجرة بعد فتح مكة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا تفرد به أحمد    . 
وقال  البخاري    : ثنا محمد بن أبي بكر ،  ثنا الفضيل بن سليمان ،  ثنا عاصم ،  عن  أبي عثمان النهدي ،  عن مجاشع بن مسعود  قال : انطلقت بأبي معبد  إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة ، فقال : مضت الهجرة لأهلها ، أبايعه على الإسلام والجهاد فلقيت أبا معبد  فسألته ، فقال : صدق مجاشع    . وقال خالد ،  عن أبي عثمان  عن مجاشع ،  أنه جاء بأخيه مجالد    . 
وقال  البخاري    : ثنا عمرو بن خالد ،  ثنا زهير ،  ثنا عاصم ،  عن أبي عثمان  قال : حدثني مجاشع  قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخي بعد يوم الفتح فقلت : يا رسول الله ، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة ، قال : " ذهب أهل   [ ص: 621 ] الهجرة بما فيها " فقلت : على أي شيء تبايعه ؟ قال : " أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد فلقيت أبا معبد  بعد ، وكان أكبرهما سنا ، فسألته ، فقال : صدق مجاشع    . 
وقال  البخاري    : ثنا  محمد بن بشار ،  ثنا غندر ،  ثنا شعبة ،  عن أبي بشر ،  عن مجاهد ،  قال : قلت  لابن عمر    : أريد أن أهاجر إلى الشام . فقال : لا هجرة ، ولكن جهاد ، انطلق فاعرض نفسك ، فإن وجدت شيئا وإلا رجعت   . وقال أبو النضر    : أنا شعبة ،  أنا أبو بشر ،  سمعت  مجاهدا  قال : قلت  لابن عمر ،  فقال : لا هجرة اليوم - أو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم   - . . . مثله . 
حدثنا إسحاق بن يزيد ،  ثنا يحيى بن حمزة ،  حدثني أبو عمرو الأوزاعي ،  عن عبدة بن أبي لبابة ،  عن مجاهد بن جبر ،  أن عبد الله بن عمر  قال : لا هجرة بعد الفتح   . 
وقال  البخاري    : ثنا إسحاق بن يزيد ،  أنا يحيى بن حمزة ،  أنا الأوزاعي ،  عن عطاء بن أبي رباح  قال : زرت عائشة  مع  عبيد بن عمير ،  فسألها عن الهجرة   [ ص: 622 ] فقالت : لا هجرة اليوم ، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله عز وجل ، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، مخافة أن يفتن عليه ، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام ، فالمؤمن يعبد ربه حيث يشاء ، ولكن جهاد ونية   . 
وهذه الأحاديث والآثار دالة على أن الهجرة - إما الكاملة أو مطلقا - قد انقطعت بعد فتح مكة  ، لأن الناس دخلوا في دين الله أفواجا ، وظهر الإسلام وثبتت أركانه ودعائمه ، فلم تبق هجرة ، اللهم إلا أن يعرض حال يقتضي الهجرة بسبب مجاورة أهل الحرب  ، وعدم القدرة على إظهار الدين عندهم ، فتجب الهجرة إلى دار الإسلام  ، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء ، ولكن هذه الهجرة ليست كالهجرة قبل الفتح ، كما أن كلا من الجهاد والإنفاق في سبيل الله مشروع ومرغب فيه إلى يوم القيامة ، ولكن ليس كالإنفاق ولا الجهاد قبل الفتح ، فتح مكة . قال الله تعالى : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى  الآية ( الحديد : 10 ) . 
وقد قال الإمام أحمد    : ثنا محمد بن جعفر ،  ثنا شعبة ،  عن عمرو بن مرة ،  عن  أبي البختري الطائي ،  عن  أبي سعيد الخدري ،  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لما نزلت هذه السورة إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا   [ ص: 623 ]   ( النصر : 1 - 3 ) . قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها ، وقال : الناس حيز وأنا وأصحابي حيز وقال : لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية . فقال له مروان    : كذبت . وعنده رافع بن خديج   وزيد بن ثابت  قاعدان معه على السرير ، فقال أبو سعيد    : لو شاء هذان لحدثاك ، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه ، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة . فرفع مروان  عليه الدرة ليضربه ، فلما رأيا ذلك قالا : صدق . تفرد به أحمد    . 
وقال  البخاري    : ثنا موسى بن إسماعيل ،  ثنا أبو عوانة ،  عن أبي بشر  ، عن سعيد بن جبير ،  عن ابن عباس  قال : كان عمر  يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر    : إنه ممن قد علمتم . فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم . فما رئيت أنه أدخلني فيهم يومئذ إلا ليريهم ، فقال : ما تقولون في قول الله عز وجل : إذا جاء نصر الله والفتح   فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا . وسكت بعضهم فلم يقل شيئا ، فقال لي : أكذاك تقول يا ابن عباس ؟  فقلت : لا . فقال : ما تقول ؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم   [ ص: 624 ] أعلمه له ، قال : إذا جاء نصر الله والفتح  فذلك علامة أجلك ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا  قال عمر بن الخطاب    : لا أعلم منها إلا ما تقول   . تفرد به  البخاري    . وهكذا روي من غير وجه ، عن ابن عباس  أنه فسر ذلك بنعي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أجله . وبه قال مجاهد   وأبو العالية  والضحاك  وغير واحد كما قال ابن عباس  وعمر بن الخطاب ،  رضي الله عنهما . 
فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد    : ثنا  محمد بن فضيل ،  ثنا عطاء ،  عن سعيد بن جبير ،  عن ابن عباس  قال : لما نزلت : إذا جاء نصر الله والفتح  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعيت إلي نفسي . بأنه مقبوض في تلك السنة   . تفرد به الإمام أحمد ،  وفي إسناده  عطاء بن أبي مسلم الخراساني ،  وفيه ضعف ، تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، وفي لفظه نكارة شديدة ، وهو قوله بأنه مقبوض في تلك السنة ، وهذا باطل ، فإن الفتح كان في سنة ثمان في رمضان منها ، كما تقدم بيانه ، وهذا ما لا خلاف فيه . وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة ، بلا خلاف أيضا .   [ ص: 625 ] 
وهكذا الحديث الذي رواه  الحافظ أبو القاسم الطبراني ،  رحمه الله : ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي ،  ثنا أبي ، ثنا  جعفر بن عون ،  عن  أبي العميس ،  عن أبي بكر بن أبي الجهم ،  عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ،  عن ابن عباس  قال : آخر سورة نزلت من القرآن جميعا : إذا جاء نصر الله والفتح  فيه نكارة أيضا ، وفي إسناده نظر أيضا ، ويحتمل أن يكون أنها آخر سورة نزلت  جميعها كما قال . والله أعلم . وقد تكلمنا على تفسير هذه السورة الكريمة بما فيه كفاية ، ولله الحمد والمنة . 
وقال  البخاري    : ثنا سليمان بن حرب ،  ثنا حماد بن زيد ،  عن أيوب ،  عن أبي قلابة ،  عن عمرو بن سلمة    - قال لي أبو قلابة    : ألا تلقاه فتسأله فلقيته فسألته - قال : كنا بماء ممر الناس ، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون : يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه كذا . فكنت أحفظ ذاك الكلام ، فكأنما يغري في صدري ، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح ، فيقولون : اتركوه وقومه ، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق . فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم ، وبدر أبي قومي بإسلامهم . فلما قدم قال : جئتكم والله من عند النبي حقا ، قال : صلوا   [ ص: 626 ] صلاة كذا في حين كذا ، وصلاة كذا في حين كذا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكثركم قرآنا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني ، لما كنت أتلقى من الركبان ، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين ، وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني . فقالت امرأة من الحي : ألا تغطون عنا است قارئكم ؟ فاشتروا ، فقطعوا لي قميصا ، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص   . تفرد به  البخاري  دون مسلم    . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					