خلافة أبي بكر الصديق  ،  رضي الله عنه ، وما كان في أيامه من الحوادث والأمور . 
قد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين وذلك ضحى ، فاشتغل الناس بأمر بيعة أبي بكر الصديق  في سقيفة بني ساعدة ،  ثم في المسجد البيعة العامة في بقية يوم الاثنين وصبيحة الثلاثاء ، كما تقدم ذلك بطوله ، ثم أخذوا في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكفينه ، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تسليما ، بقية يوم الثلاثاء ، ودفنوه ليلة الأربعاء ، كما تقدم ذلك مبرهنا في موضعه . 
وقال محمد بن إسحاق بن يسار    : حدثني الزهري  ، حدثني أنس بن مالك  قال : لما بويع أبو بكر  في السقيفة وكان الغد ، جلس أبو بكر  على المنبر ، فقام عمر  فتكلم قبل أبي بكر  ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أيها الناس ، إني قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله ، ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا - يقول : يكون آخرنا - وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به   [ ص: 415 ] هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له ، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم ; صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار ، فقوموا فبايعوه . فبايع الناس أبا بكر  بيعة العامة بعد بيعة السقيفة ، ثم تكلم أبو بكر  فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه ، إن شاء الله ، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه ، إن شاء الله ، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء ، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله ، فلا طاعة لي عليكم ، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله   . وهذا إسناد صحيح . 
وقد اتفق الصحابة ، رضي الله عنهم ، على بيعة الصديق   في ذلك الوقت ، حتى علي بن أبي طالب   والزبير بن العوام  ، رضي الله عنهما وأرضاهما ، والدليل على ذلك ما رواه  البيهقي  حيث قال : أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن علي الحافظ الإسفراييني  ، ثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ  ، ثنا  أبو بكر بن خزيمة   وإبراهيم بن أبي طالب  ، قالا : ثنا  بندار بن بشار  ، ثنا أبو هشام المخزومي  ، ثنا وهيب  ، ثنا  داود بن أبي هند  ، ثنا أبو نضرة  عن  أبي سعيد الخدري  قال : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة  ، وفيهم أبو بكر وعمر    .   [ ص: 416 ] قال : فقام خطيب الأنصار  فقال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين ، وخليفته من المهاجرين  ، ونحن كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنحن أنصار خليفته ، كما كنا أنصاره . قال : فقام عمر بن الخطاب  فقال : صدق قائلكم ، ولو قلتم غير هذا لم نتابعكم . فأخذ بيد أبي بكر  ، وقال : هذا صاحبكم فبايعوه . فبايعه عمر  ، وبايعه المهاجرون  والأنصار ،  قال : فصعد أبو بكر  المنبر ، فنظر في وجوه القوم ، فلم ير الزبير    . قال : فدعا بالزبير  فجاء ، قال : قلت : ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه ، أردت أن تشق عصا المسلمين ؟ ! قال : لا تثريب يا خليفة رسول الله . فقام فبايعه ، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا ،  فدعا بعلي بن أبي طالب  ، فجاء فقال : قلت : ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته ، أردت أن تشق عصا المسلمين ؟ ! قال : لا تثريب يا خليفة رسول الله . فبايعه   . هذا أو معناه . 
قال الحافظ أبو علي النيسابوري    : سمعت  ابن خزيمة  يقول : جاءني مسلم بن الحجاج  ، فسألني عن هذا الحديث ، فكتبته له في رقعة وقرأت عليه ، فقال : هذا حديث يساوي بدنة . فقلت : يسوى بدنة ؟ ! بل هذا يسوى بدرة . وقد رواه الإمام أحمد  عن الثقة ، عن وهيب  مختصرا . وأخرجه   [ ص: 417 ]  الحاكم  في " مستدركه " من طريق  عفان بن مسلم  ، عن وهيب  مطولا كنحو ما تقدم . وروينا من طريق المحاملي  ، عن القاسم بن سعيد بن المسيب  ، عن  علي بن عاصم  ، عن  الحريري  ، عن  أبي نضرة  ، عن أبي سعيد  ، فذكر مثله في مبايعة علي  والزبير  ، رضي الله عنهما ، يومئذ . 
وقال  موسى بن عقبة  في " مغازيه " عن سعد بن إبراهيم  ، حدثني أبي ، أن أباه عبد الرحمن بن عوف  كان مع عمر  ، وأن محمد بن مسلمة  كسر سيف الزبير  ، ثم خطب أبو بكر  ، واعتذر إلى الناس ، وقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة ، ولا سألتها الله في سر ولا علانية . فقبل المهاجرون مقالته ، وقال علي  والزبير    : ما غضبنا إلا لأننا أخرنا عن المشورة ، وإنا نرى أبا بكر  أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنه لصاحب الغار ، وإنا لنعرف شرفه وخيره ، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي ، وهذا اللائق بعلي  ، رضي الله عنه ، والذي تدل عليه الآثار ; من شهوده معه الصلوات ، وخروجه معه إلى ذي القصة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما سنورده ، وبذله له النصيحة والمشورة بين يديه ، وأما ما يأتي من مبايعته إياه بعد موت فاطمة    - وقد ماتت بعد أبيها ، عليه الصلاة والسلام ، بستة أشهر - فذلك محمول على أنها بيعة ثانية أزالت ما   [ ص: 418 ] كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث ، ومنعه إياهم ذلك بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة   " . كما تقدم إيراد أسانيده وألفاظه . ولله الحمد . وقد كتبنا هذه الطرق مستقصاة في الكتاب الذي أفردناه في سيرة الصديق  ، رضي الله عنه ، وما أسنده من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما روي عنه من الأحكام مبوبة على أبواب العلم . ولله الحمد والمنة . 
وقال سيف بن عمر التميمي  عن أبي ضمرة  ، عن أبيه ، عن عاصم بن عدي  قال : نادى منادي أبي بكر  من الغد من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليتم بعث أسامة  ، ألا لا يبقين بالمدينة  أحد من جند أسامة  إلا خرج إلى عسكره بالجرف . وقام أبو بكر  في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أيها الناس ، إنما أنا مثلكم ، وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق ، إن الله اصطفى محمدا  على العالمين ، وعصمه من الآفات ، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع ، فإن استقمت فتابعوني ، وإن زغت فقوموني ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ; ضربة سوط فما دونها ، وإن لي شيطانا يعتريني ، فإذا أتاني فاجتنبوني ، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم ، وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ، وإن استطعتم أن لا   [ ص: 419 ] يمضي إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا ، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله ، وسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال ، فإن قوما نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم ، فإياكم أن تكونوا أمثالهم ، الجد الجد ، النجاء النجاء ، الوحا الوحا ، فإن وراءكم طالبا حثيثا ، وأجلا مره سريع ، احذروا الموت ، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان ، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات . قال : وقام أيضا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله ، عز وجل ، لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه ، فأريدوا الله بأعمالكم ، فأيما أخلصتم لله من الأعمال ، فطاعة أتيتموها ، وحظا ظفرتم به ، وضرائب أديتموها ، وسلفا قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم ، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم ، وتفكروا فيمن كان قبلكم ، أين كانوا أمس ؟ وأين هم اليوم ؟ أين الجبارون ؟ أين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب ؟ ! قد تضعضع بهم الدهر ، وصاروا رميما ، قد تركت عليهم القالات ، الخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات ، وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها ؟ ! قد بعدوا ونسي ذكرهم ، وصاروا كلا   [ ص: 420 ] شيء إلا أن الله ، عز وجل ، قد أبقى عليهم التبعات ، وقطع عنهم الشهوات ، ومضوا والأعمال أعمالهم ، والدنيا دنيا غيرهم ، وبقينا خلفا بعدهم ، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا ، وإن اغتررنا بهم كنا مثلهم ، أين الوضاء الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ؟ ! صاروا ترابا ، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم ، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ، وجعلوا فيها الأعاجيب ؟ ! قد تركوها لمن خلفهم ، فتلك مساكنهم خاوية ، وهم في ظلمات القبور ، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ؟ أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم ؟ ! قد انتهت بهم آجالهم ، فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه ، وأقاموا للشقوة أو السعادة فيما بعد الموت ، ألا إن الله لا شريك له ، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا ، ولا يصرف به عنه سوءا ، إلا بطاعته واتباع أمره ، واعلموا أنكم عبيد مدينون ، وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته ، أما إنه لا خير بخير بعده النار ، ولا شر بشر بعده الجنة   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					