أي أجب كلامهم المحكي من قولهم ( ساحران ) وقولهم إنا بكل كافرون .
ووصف " كتاب " بـ من عند الله إدماج لمدح القرآن والتوراة بأنهما كتابان من عند الله . والمراد بالتوراة ما تشتمل عليه الأسفار الأربعة المنسوبة إلى موسى من كلام الله إلى موسى أو من إسناد موسى أمرا إلى الله لا كل ما اشتملت عليه تلك الأسفار ، فإن فيها قصصا وحوادث ما هي من كلام الله ، فيقال للمصحف هو كلام الله بالتحقيق ، ولا يقال لأسفار العهدين كلام الله إلا على التغليب ، إذ لم يدع ذلك المرسلان بكتابي العهد . وقد تحداهما القرآن في هذه الآية بما يشتمل عليه القرآن من الهدى ببلاغة نظمه . وهذا دليل على أن مما يشتمل عليه من العلم والحقائق هو من طرق إعجازه كما قدمناه في المقدمة العاشرة .
فمعنى فإن لم يستجيبوا لك إن لم يستجيبوا لدعوتك ، أي إلى الدين بعد قيام الحجة عليهم بهذا التحدي ، فاعلم أن استمرارهم على الكفر بعد ذلك ما هو إلا إتباع للهوى ولا شبهة لهم في دينهم .
ويجوز أن يراد بعدم الاستجابة عدم الإتيان بكتاب أهدى من القرآن ؛ لأن فعل الاستجابة يقتضي دعاء ولا دعاء في قوله فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما بل هو تعجيز ، فالتقدير : فإن عجزوا ولم يستجيبوا لدعوتك بعد العجز فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ، أي لا يغير . واعلم أن فعل الاستجابة بزيادة السين والتاء يتعدى إلى الدعاء بنفسه ويتعدى إلى الداعي باللام ، وحينئذ يحذف لفظ الدعاء غالبا فقلما قيل : استجاب الله له دعاءه ، بل يقتصر على : استجاب الله له ، فإذا قالوا : دعاه فاستجابه كان المعنى فاستجاب دعاءه . وهذا كقوله فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله في سورة هود .
[ ص: 140 ] و " أنما " المفتوحة الهمزة تفيد الحصر مثل ( إنما ) المكسورة الهمزة ؛ لأن المفتوحة الهمزة فرع عن المكسورتها لفظا ومعنى ، فلا محيص من مفادها ، فالتقدير فاعلم أنهم ما يتبعون إلا أهواءهم . وجيء بحرف ( إن ) الغالب في الشرط المشكوك على طريقة التهكم ، أو ؛ لأنها الحرف الأصلي . وإقحام فعل " فاعلم " للاهتمام بالخبر الذي بعده ، كما تقدم في قوله تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه في سورة الأنفال .
وقوله " أتبعه " جواب " فأتوا " أي إن تأتوا به أتبعه ، وهو مبالغة في التعجيز ؛ لأنه إذا وعدهم بأن يتبع ما يأتون به فهو يتبعهم أنفسهم وذلك مما يوفر دواعيهم على محاولة الإتيان بكتاب أهدى من كتابه لو استطاعوه ، فإن لم يفعلوا فقد حق عليهم الحق ، ووجبت عليهم المغلوبية فكان ذلك أدل على عجزهم وأثبت في إعجاز القرآن .
وهذا من التعليق على ما تحقق عدم وقوعه ، فالمعلق حينئذ ممتنع الوقوع كقوله قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين . ولكونه ممتنع الوقوع أمر الله رسوله أن يقوله . وقد فهم من قوله فإن لم يستجيبوا ومن إقحام " فاعلم " أنهم لا يأتون بذلك البتة ، وهذا من الإعجاز بالإخبار عن الغيب .
وجاء في آخر الكلام تذييل عجيب ، وهو أنه لا أحد أشد ضلالا من أحد اتبع هواه المنافي لهدى الله .
و " من " اسم استفهام عن ذات مبهمة ، وهو استفهام الإنكار فأفاد الانتفاء فصار معنى الاسمية الذي فيه في معنى نكرة في سياق النفي أفادت العموم فشمل هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم وغيرهم . وبهذا العموم صار تذييلا وهو كقوله تعالى ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله في سورة البقرة .
وأطلق الاتباع على العمل بما تمليه إرادة المرء الناشئة عن ميله إلى المفاسد والأضرار تشبيها للعمل بالمشي وراء السائر ، وفيه تشبيه الهوى بسائر ، والهوى مصدر لمعنى المفعول كقول جعفر بن علبة :
هواي مع الركب اليمانين مصعد
[ ص: 141 ] وقوله بغير هدى من الله الباء فيه للملابسة وهو موضع الحال من فاعل اتبع هواه وهو حال كاشفة لتأكيد معنى الهوى ؛ لأن الهوى لا يكون ملابسا للهدى الرباني ولا صاحبه ملابسا له ؛ لأن الهدى يرجع إلى معنى إصابة المقصد الصالح .
وجعل الهدى من الله ؛ لأنه حق الهدى ؛ لأنه وارد من العالم بكل شيء فيكون معصوما من الخلل والخطإ .
ووجه كونه لا أضل منه أن الضلال في الأصل خطأ الطريق وأنه يقع في أحوال متفاوتة في عواقب المشقة أو الخطر أو الهلاك بالكلية ، على حسب تفاوت شدة الضلال . واتباع الهوى مع إلغاء إعمال النظر ومراجعته في النجاة يلقي بصاحبه إلى كثير من أحوال الضر بدون تحديد ولا انحصار .
فلا جرم يكون هذا الاتباع المفارق لجنس الهدى أشد الضلال ، فصاحبه أشد الضالين ضلالا .
ثم ذيل هذا التذييل بما هو تمامه إذ فيه تعيين هذا الفريق المبهم الذي هو أشد الضالين ضلالا ، فإنه الفريق الذين كانوا قوما ظالمين ، أي كان الظلم شأنهم وقوام قوميتهم ولذلك عبر عنهم بالقوم .
والمراد بالظالمين : الكاملون في الظلم ، وهو ظلم الأنفس وظلم الناس ، وأعظمه الإشراك وإتيان الفواحش والعدوان ، فإن الله لا يخلق في نفوسهم الاهتداء عقابا منه على ظلمهم فهم باقون في الضلال يتخبطون فيه ، فهم أضل الضالين ، وهم مع ذلك متفاوتون في انتفاء هدى الله عنهم على تفاوتهم في التصلب في ظلمهم ; فقد يستمر أحدهم زمانا على ضلاله ثم يقدر الله له الهدى فيخلق في قلبه الإيمان . ولأجل هذا التفاوت في قابلية الإقلاع عن الضلال استمرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم للإيمان في عموم المدعوين إذ لا يعلم إلا الله مدى تفاوت الناس لقبول الهدى ، فالهدى المنفي عن أن يتعلق بهم هنا هو الهدى التكويني .
وأما الهدى بمعنى الإرشاد فهو من عموم الدعوة . وهذا معنى قول الأيمة من [ ص: 142 ] الأشاعرة أن الله يخاطب بالإيمان من يعلم أنه لا يؤمن مثل أبي جهل ؛ لأن التعلق التكويني غير التعلق التشريعي .
و بين هواه و هدى جناس محرف وجناس خط .


