أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون   
الاستفهام في أحسب  مستعمل في الإنكار ، أي إنكار حسبان ذلك . و " حسب " بمعنى ظن ، وتقدم في قوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة  في سورة البقرة . والمراد بالناس كل الذين آمنوا ، فالقول كناية عن حصول المقول في نفس الأمر ، أي أحسب الناس وقوع تركهم لأن يقولوا آمنا ، فقوله : أن يتركوا  مفعول أول لـ " حسب " . وقوله : أن يقولوا آمنا  شبه جملة في محل المفعول الثاني وهو مجرور بلام جر محذوف مع " أن " حذفا مطردا ، والتقدير : أحسب الناس تركهم غير مفتونين لأجل قولهم : آمنا ، فإن أفعال الظن والعلم لا تتعدى إلى الذوات ، وإنما تتعدى إلى الأحوال والمعاني وكان حقها أن يكون مفعولها واحدا دالا على حالة ، ولكن جرى استعمال الكلام على أن يجعلوا لها اسم ذات مفعولا ، ثم يجعلوا ما يدل على حالة للذات مفعولا ثانيا ؛ ولذلك قالوا : إن مفعولي أفعال القلوب أي العلم ونحوه أصلهما مبتدأ وخبر . 
والترك : عدم تعهد الشيء بعد الاتصال به . 
والترك هنا مستعمل في حقيقته ؛ لأن الذين آمنوا قد كانوا مخالطين للمشركين ومن زمرتهم ، فلما آمنوا اختصوا بأنفسهم وخالفوا أحوال قومهم ، وذلك مظنة أن يتركهم المشركون وشأنهم ، فلما أبى المشركون إلا منازعتهم طمعا في إقلاعهم عن   [ ص: 203 ] الإيمان وقع ذلك منهم موقع المباغتة والتعجب ، وتقدم الترك المجازي في قوله تعالى : وتركهم في ظلمات لا يبصرون  أوائل البقرة . 
و أن يقولوا  في موضع نصب على نزع الخافض الذي هو لام التعليل ، والتقدير : لأجل أن يقولوا آمنا    . 
وجملة وهم لا يفتنون  حال ، أي لا يحسبون أنهم سالمون من الفتنة إذا آمنوا . 
والفتن والفتون : فساد حال الناس بالعدوان والأذى في الأنفس والأموال والأهلين . والاسم الفتنة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : إنما نحن فتنة فلا تكفر  في سورة البقرة . 
وبناء فعلي يتركوا  ، و يفتنون للمجهول ؛ للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهور أن الفاعل قوم ليسوا بمؤمنين ، أي أن يتركوا خالين عن فتون الكافرين إياهم ، لما هو معروف من الأحداث قبيل نزولها ، ولما هو معلوم من دأب الناس أن يناصبوا العداء من خالفهم في معتقداتهم ، ومن ترفع عن رذائلهم . والمعنى : أحسب الذين قالوا آمنا أن يتركهم أعداء الدين دون أن يفتنوهم . ومن فسروا الفتون هنا بما شمل التكاليف الشاقة مثل الهجرة والجهاد - قد ابتعدوا عن مهيع المعنى واللفظ ، وناكدوا ما تفرع عنه من قوله : فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين    . 
وإنما لم نقدر فاعل يتركوا و يفتنون أنه الله تعالى تحاشيا مع التشابه مع وجود مندوحة عنه . 
وهذه الفتنة مراتب ، أعظمها التعذيب كما فعل ببلال وعمار بن ياسر وأبويه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					