وافتتاح الخطاب بالنداء لاسترعاء وعيه واهتمامه بما سيقال له .
والخليفة : الذي يخلف غيره في عمل ، أي يقوم مقامه فيه ، فإن كان مع وجود المخلوف عنه قيل : هو خليفة فلان ، وإن كان بعدما مضى المخلوف قيل : هو خليفة من فلان . والمراد هنا : المعنى الأول بقرينة قوله فاحكم بين الناس بالحق .
فالمعنى : أنه خليفة الله في إنفاذ شرائعه للأمة المجعول لها خليفة مما يوحي به إليه ومما سبق من الشريعة التي أوحي إليه العمل بها . وخليفة عن موسى - عليه السلام - وعن أحبار بني إسرائيل الأولين المدعوين بالقضاة ، أو خليفة عمن تقدمه في الملك وهو شاول .
والأرض : أرض مملكته المعهودة ، أي جعلناك خليفة في أرض إسرائيل .
ويجوز أن يجعل الأرض مرادا به جميع الأرض فإن داود كان في زمنه أعظم ملوك الأرض فهو متصرف في مملكته ، ويخاف بأسه ملوك الأرض فهو خليفة الله في الأرض إذ لا ينفلت شيء من قبضته ، وهذا قريب من الخلافة في قوله تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم وقوله ويجعلكم خلفاء الأرض .
وهذا المعنى خلاف معنى قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة فإن الأرض هنالك هي هذه الكرة الأرضية . قال ابن عطية : ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله صلى الله عليه وسلم - وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفة الذي قبله ، [ ص: 243 ] ألا ترى أن الصحابة - رضي الله عنهم - حرروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر - رضي الله عنه - : يا خليفة رسول الله ، وبهذا كان يدعى بذلك مدة حياته ، فلما ولي عمر قالوا : يا خليفة خليفة رسول الله ، فطال ورأوا أنه سيطول أكثر في المستقبل إذا ولي خليفة بعد عمر فدعوا عمر أمير المؤمنين ، وقصر هذا على الخلفاء ، وما يجيء في الشعر من دعاء أحد الخلفاء خليفة الله فذلك تجوز ، كما قال ابن قيس الرقيات :
خليفة الله في بريته جفت بذاك الأقلام والكتب
وفرع على جعله خليفة أمره بأن يحكم بين الناس بالحق للدلالة على أن ذلك واجبه وأنه أحق الناس بالحكم بالعدل ، ذلك لأنه هو المرجع للمظلومين والذي ترفع إليه مظالم الظلمة من الولاة ، فإذا كان عادلا خشيه الولاة والأمراء لأنه ألف العدل وكره الظلم ، فلا يقر ما يجري منه في رعيته كلما بلغه فيكون الناس في حذر من أن يصدر عنهم ما عسى أن يرفع إلى الخليفة فيقتص من الظالم ، وأما إن كان الخليفة يظلم في حكمه فإنه يألف الظلم فلا يغضبه إذا رفعت إليه مظلمة شخص ولا يحرص على إنصاف المظلوم .وفي الكشاف : أن بعض خلفاء بني أمية قال لعمر بن عبد العزيز أو للزهري : هل سمعت ما بلغنا ؟ قال : وما هو ؟ قال : بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا تكتب له معصية ، فقال : يا أمير المؤمنين ، الخلفاء أفضل أم الأنبياء ؟ ثم تلا هذه الآية .
والمراد ب " الناس " ناس مملكته ، فالتعريف للعهد أو هو للاستغراق العرفي .
والحق : هو ما يقتضيه العدل الشرعي من معاملة الناس بعضهم بعضا وتصرفاتهم في خاصتهم وعامتهم ، ويتعين الحق بتعيين الشريعة .
والباء في " بالحق " باء المجازية ، جعل الحق كالآلة التي يعمل بها العامل في قولك : قطعه بالسكين ، وضربه بالعصا .
وقوله ولا تتبع الهوى معطوف على التفريع ، ولعله المقصود من التفريع . وإنما تقدم عليه أمره بالحكم بالحق ليكون توطئة للنهي عن اتباع الهوى سدا لذريعة [ ص: 244 ] الوقوع في خطأ الحق ، فإن داود ممن حكم بالحق فأمره به باعتبار المستقبل .
والتعريف في " الهوى " تعريف الجنس المفيد للاستغراق ، فالنهي يعم كل ما هو هوى ، سواء كان هوى المخاطب أو هوى غيره مثل هوى زوجه وولده وسيده ، وصديقه ، أو هوى الجمهور ، قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون .
ومعنى الهوى : المحبة ، وأطلق على الشيء المحبوب مبالغة ، أي ولو كان هوى شديدا تعلق النفس به .
والهوى : كناية عن الباطل والجور والظلم لما هو متعارف من الملازمة بين هذه الأمور وبين هوى النفوس ، فإن العدل والإنصاف ثقيل على النفوس فلا تهواه غالبا ، ومن صارت له محبة الحق سجية فقد أوتي العلم والحكمة وأيد بالحفظ أو العصمة .
والنهي عن اتباع الهوى تحذير له وإيقاظ ليحذر من جراء الهوى ويتهم هوى نفسه ويتعقبه فلا ينقاد إليه إلا بعد التأمل والتثبت ، وقد قال سهل بن حنيف - رضي الله عنه - : " اتهموا الرأي " ، ذلك أن هوى النفس يكون في الأمور السهلة عليها الرائقة عندها ، ومعظم الكمالات صعبة على النفس لأنها ترجع إلى تهذيب النفس والارتقاء بها عن حضيض الحيوانية إلى أوج الملكية ، ففي جميعها أو معظمها صرف للنفس عما لاصقها من الرغائب الجسمانية الراجع أكثرها إلى طبع الحيوانية لأنها إما مدعوة لداعي الشهوة أو داعي الغضب ، فالاسترسال في اتباعها وقوع في الرذائل في الغالب ، ولهذا جعل هنا الضلال عن سبيل الله مسببا على اتباع الهوى ، وهو تسبب أغلبي عرفي ، فشبه الهوى بسائر في طريق مهلكة على طريقة المكنية ورمز إليه بلازم ذلك وهو الإضلال عن طريق الرشاد المعبر عنه بسبيل الله ، فإن الذي يتبع سائرا غير عارف بطريق المنازل النافعة لا يلبث أن يجد نفسه وإياه في مهلكة أو مقطعة طريق .
واتباع الهوى قد يكون اختيارا ، وقد يكون كرها . والنهي عن اتباعه يقتضي النهي عن جميع أنواعه ، فأما الاتباع الاختياري فالحذر منه ظاهر ، وأما الاتباع الاضطراري فالتخلص منه بالانسحاب عما جره إلى الإكراه ، ولذلك اشترط [ ص: 245 ] العلماء في الخليفة شروطا ، كلها تحوم حول الحيلولة بينه وبين اتباع الهوى وما يوازيه من الوقوع في الباطل ، وهي : التكليف ، والحرية ، والعدالة ، والذكورة ، وأما شرط كونه من قريش عند الجمهور فلئلا يضعف أمام القبائل بغضاضة .
وانتصب " فيضلك " بعد فاء السببية في جواب النهي . ومعنى جواب النهي جواب المنهي عنه فهو السبب في الضلال وليس النهي سببا في الضلال . وهذا بخلاف طريقة الجزم في جواب النهي .
وسبيل الله : الأعمال التي تحصل منها مرضاته وهي الأعمال التي أمر الله بها ووعد بالجزاء عليها ، شبهت بالطريق الموصل إلى الله ، أي إلى مرضاته . وجملة إن الذين يضلون عن سبيل الله إلى آخرها يظهر أنها مما خاطب الله به داود ، وهي عند أصحاب العدد آية واحدة من قوله يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض إلى " يوم الحساب " ، فهي في موقع العلة للنهي ، فكانت ( إن ) مغنية عن فاء التسبب والترتب ، فالشيء الذي يفضي إلى العذاب الشديد خليق بأن ينهى عنه ، وإن كانت الجملة كلاما منفصلا عن خطاب داود كانت معترضة ومستأنفة استئنافا بيانيا لبيان خطر الضلال عن سبيل الله .
والعموم الذي في قوله الذين يضلون عن سبيل الله يكسب الجملة وصف التذييل أيضا ، وكلا الاعتبارين موجب لعدم عطفها .
وجيء بالموصول للإيماء إلى أن الصلة علة لاستحقاق العذاب . واللام في " لهم عذاب " للاختصاص ، والباء في بما نسوا يوم الحساب سببية .
و ( ما ) مصدرية ، أي بسبب نسيانهم يوم الحساب ، وتتعلق الباء بالاستقرار الذي ناب عنه المجرور في قوله " لهم عذاب " .
والنسيان : مستعار للإعراض الشديد لأنه يشبه نسيان المعرض عنه كما في قوله تعالى نسوا الله فنسيهم ، وهو مراتب أشدها إنكار البعث والجزاء ، قال تعالى فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم ، ودونه مراتب كثيرة تكون على وفق مراتب العذاب لأنه إذا كان السبب ذا مراتب كانت المسببات تبعا لذلك .
[ ص: 246 ] والمراد ب " يوم الحساب " ما يقع فيه من الجزاء على الخير والشر ، فهو في المعنى على تقدير مضاف ، أي جزاء يوم الحساب على حد قوله تعالى ونسي ما قدمت يداه ، أي لم يفكر في عاقبة ما يقدمه من الأعمال .
وفي جعل الضلال عن سبيل الله ونسيان يوم الحساب سببين لاستحقاق العذاب الشديد ، تنبيه على تلازمهما فإن الضلال عن سبيل الله يفضي إلى الإعراض عن مراقبة الجزاء .
وترجمة داود تقدمت عند قوله تعالى ومن ذريته داود في الأنعام ، وقوله وآتينا داود زبورا في النساء .


