فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم  بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون    . 
الفاء لتفريع هذا الكلام على قوله وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة  الآية ، وما بينهما اعتراض مسلسل بعضه مع بعض للمناسبات . 
وتفريع ما بعد الفاء على ما ذكرناه تفريع وصف بعض من غرائب أحوالهم على بعض ، وهل أغرب من فزعهم إلى الله وحده بالدعاء إذا مسهم الضر وقد كانوا يشمئزون من ذكر اسمه وحده فهذا تناقض من أفعالهم وتعكيس ، فإنه تسبب   [ ص: 35 ] حديث على حديث وليس تسببا على الوجود . وهذه النكتة هي الفارقة بين العطف بالفاء هنا وعطف نظيرها بالواو في قوله أول السورة وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه  ، والمقصود بالتفريع هو قوله فإذا مس الإنسان ضر دعانا  ، وأما ما بعده فتتميم واستطراد . 
وقد تقدم القول في نظير صدر هذه الآية في قوله وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي  الآية . وأن المراد بالإنسان كل مشرك فالتعريف تعريف الجنس ، والمراد جماعة من الناس وهم أهل الشرك فهو للاستغراق العرفي . 
والمخالفة بين الآيتين تفنن ولئلا تخلو إعادة الآية من فائدة زائدة كما هو عادة القرآن في القصص المكررة . 
وقوله إنما أوتيته على علم  ، ( إنما ) فيه هي الكلمة المركبة من ( إن ) الكافة التي تصير كلمة تدل على الحصر بمنزلة ( ما ) النافية التي بعدها ( إلا ) الاستثنائية . 
والمعنى : ما أوتيت الذي أوتيته من نعمة إلا لعلم مني بطرق اكتسابه . وتركيز ضمير الغائب في قوله ( أوتيته ) عائد إلى ( نعمة ) على تأويل حكاية مقالتهم بأنها صادرة منهم في حال حضور ما بين أيديهم من أنواع النعم فهو من عود الضمير إلى ذات مشاهدة ، فالضمير بمنزلة اسم الإشارة كقوله تعالى بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم    . 
ومعنى قال إنما أوتيته على علم  اعتقد ذلك فجرى في أقواله إذ القول على وفق الاعتقاد . 
و ( على ) للتعليل ، أي لأجل علم ، أي بسبب علم . وخولف بين هذه الآية وبين آية سورة القصص في قوله على علم عندي  فلم يذكر هنا ( عندي ) لأن المراد بالعلم هنا مجرد الفطنة والتدبير ، وأريد هنالك علم صوغ الذهب والفضة والكيمياء التي اكتسب بها قارون  من معرفة تدابيرها مالا عظيما ،   [ ص: 36 ] وهو علم خاص به ، وأما ما هنا العلم الذي يوجد في جميع أهل الرأي والتدبير . 
والمراد : العلم بطرق الكسب ودفع الضر كمثل حيل النوتي في هول البحر . 
والمعنى : أنه يقول ذلك إذا ذكره بنعمة الله عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد المؤمنين ، وبذلك يظهر موقع صيغة الحصر لأنه قصد قلب كلام من يقول له إن ذلك من رحمة الله به . 
و ( بل ) للإضراب الإبطالي وهو إبطال لزعمهم أنهم أوتوا ذلك بسبب علمهم وتدبيرهم ، أي بل إن الرحمة التي أوتوها إنما آتاهم الله إياها ليظهر للأمم مقدار شكرهم ، أي هي دالة على حالة فيهم تشبه حالة الاختبار لمقدار علمهم بالله وشكرهم إياه ، لأن الرحمة والنعمة بها أثر في المنع عليه إما شاكرا وإما كفورا ، والله عالم بهم وغني عن اختبارهم . 
وضمير ( هي ) عائد إلى القول المستفاد من ( قال ) على طريقة إعادة الضمير على المصدر المأخوذ من فعل نحو اعدلوا هو أقرب للتقوى  ، وإنما أنث ضميره باعتبار الإخبار عنه بلفظ ( فتنة ) ، أو على تأويل القول بالكلمة كقوله تعالى كلا إنها كلمة هو قائلها  بعد قوله قال رب ارجعون  لعلي أعمل صالحا فيما تركت  والمراد : أن ذلك القول سبب فتنة أو مسبب عن فتنة في نفوسهم . ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى ( نعمة ) .
والاستدراك بقوله تعالى ولكن أكثرهم لا يعلمون  ناشئ عن مضمون جملة إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم  ، أي لكن لا يعلم أكثر الناس ومنهم القائلون ، أنهم في فتنة بما أوتوا من نعمة إذا كانوا مثل هؤلاء القائلين الزاعمين أن ما هم فيه من خير نتيجة مساعيهم وحيلهم . 
وضمير ( أكثرهم ) عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام إذ لم يتقدم ما يناسب أن يكون له معادا ، والمراد به الناس ، أي لكن أكثر الناس لا يعلمون أن بعض ما أوتوه من النعمة في الدنيا يكون لهم فتنة بحسب ما يتلقونها به من قلة   [ ص: 37 ] الشكر وما يفضي إلى الكفر ، فدخل في هذا الأكثر جميع المشركين الذين يقول كل واحد منهم : إنما أوتيته على علم . 
				
						
						
