الذي جعل لكم الأرض مهادا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون   
هذا كلام موجه من الله تعالى ، هو تخلص من الاستدلال على تفرده بالإلهية بأنه المنفرد بخلق السماوات والأرض إلى الاستدلال بأنه المنفرد بإسداء النعم التي بها قوام أود حياة الناس . فالجملة استئناف ، حذف منها المبتدأ ، والتقدير : هو   [ ص: 169 ] الذي جعل لكم الأرض مهادا . وهذا الاستئناف معترض بين جملة ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض  الآية وجملة وجعلوا له من عباده جزءا  الآية . 
واسم الموصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو الذي جعل لكم ، وهو من حذف المسند إليه الوارد على متابعة الاستعمال في تسمية السكاكي  حيث تقدم الحديث عن الله تعالى فيما قبل هذه الجملة . واجتلاب الموصول للاشتهار بمضمون الصلة فساوى الاسم العلم في الدلالة . 
وذكرت صلتان فيهما دلالة على الانفراد بالقدرة العظيمة . وعلى النعمة عليهم ، ولذلك أقحم لفظ ( لكم ) في الموضعين ، ولم يقل : الذي جعل الأرض مهادا وجعل فيها سبلا كما في قوله : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا  لأن ذلك مقام الاستدلال على منكري البعث ، فسيق لهم الاستدلال بإنشاء المخلوقات العظيمة التي لا تعد إعادة خلق الإنسان بالنسبة إليها شيئا عجيبا . 
ولم يكرر اسم الموصول في قوله : وجعل لكم فيها سبلا  لأن الصلتين تجتمعان في الجامع الخيالي إذ كلتاهما من أحوال الأرض فجعلهما كجعل واحد . وضمائر الخطاب الأحد عشر الواقعة في الآيات الأربع من قوله : الذي جعل لكم الأرض مهادا  إلى قوله مقرنين ليست من قبيل الالتفات بل هي جارية على مقتضى الظاهر . 
والمهاد : اسم لشيء يمهد ؛ أي يوطأ ويسهل لما يحل فيه ، وتقدم في قوله : لهم من جهنم مهاد  في سورة الأعراف . ووجه الامتنان أنه جعل ظاهر الأرض منبسطا وذلك الانبساط لنفع البشر الساكنين عليها . وهذا لا ينافي أن جسم الأرض كروي كما هو ظاهر ؛ لأن كرويتها ليست منفعة للناس . 
وقرأ عاصم    ( مهدا ) بدون ألف بعد الهاء وهو مراد به المهاد . 
والسبل : جمع سبيل ، وهو الطريق ، ويطلق السبيل على وسيلة الشيء كقوله : يقولون هل إلى مرد من سبيل    . ويصح إرادة المعنيين هنا ؛ لأن في الأرض طرقا يمكن سلوكها ، وهي السهول وسفوح الجبال وشعابها ، أي لم يجعل الأرض كلها   [ ص: 170 ] جبالا فيعسر على الماشين سلوكها ، بل جعل فيها سبلا سهلة وجعل جبالا لحكمة أخرى ولأن الأرض صالحة لاتخاذ طرق مطروقة سابلة . 
ومعنى جعل الله تلك الطرق بهذا المعنى : أنه جعل للناس معرفة السير في الأرض واتباع بعضهم آثار بعض حتى تتعبد الطرق لهم وتتسهل ويعلم السائر أي تلك السبل يوصله إلى مقصده . 
وفي تيسير وسائل السير في الأرض لطف عظيم ؛ لأن به تيسير التجمع والتعارف واجتلاب المنافع والاستعانة على دفع الغوائل والأضرار ، والسير في الأرض قريبا أو بعيدا من أكبر مظاهر المدنية الإنسانية ، ولأن الله جعل في الأرض معايش الناس من النبات والثمر وورق الشجر والكمأة والفقع وهي وسائل العيش فهي سبل مجازية . وتقدم نظير هذه الآية في سورة طه . 
والاهتداء : مطاوع هداه فاهتدى . والهداية حقيقتها : الدلالة على المكان المقصود ، ومنه سمي الدال على الطرائق هاديا ، وتطلق على تعريف الحقائق المطلوبة ومنه إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور    . والمقصود هنا المعنى الثاني ، أي رجاء حصول علمكم بوحدانية الله وبما يجب له ، وتقدم في اهدنا الصراط المستقيم    . 
ومعنى الرجاء المستفاد من ( لعل ) استعارة تمثيلية تبعية ، مثل حال من كانت وسائل الشيء حاضرة لديه بحال من يرجى لحصول المتوسل إليه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					