[ ص: 25 ] وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا   لنخرج به حبا ونباتا  وجنات ألفافا    . 
استدلال بحالة أخرى من الأحوال التي أودعها الله تعالى في نظام الموجودات وجعلها منشأ شبيها بحياة بعد شبيه بموت أو اقتراب منه ، ومنشأ تخلق موجودات من ذرات دقيقة . وتلك حالة إنزال ماء المطر من الأسحبة على الأرض ، فتنبت الأرض به سنابل حب وشجرا وكلأ ، وتلك كلها فيها حياة قريبة من حياة الإنسان والحيوان وهي حياة النماء ، فيكون ذلك دليلا للناس على تصور حالة البعث بعد الموت بدليل من التقريب الدال على إمكانه حتى تضمحل من نفوس المكابرين شبه إحالة البعث . 
وهذا الذي أشير إليه هنا قد صرح به في مواضع من القرآن كقوله تعالى : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد  والنخل باسقات لها طلع نضيد  رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج  ، ففي الآية استدلالان بإنزال الماء من السحاب ، واستدلال بالإنبات ، وفي هذا أيضا منة على المعرضين على النظر في دلائل صنع الله التي هي دواع لشكر المنعم بها  ، لما فيها من منافع للناس من رزقهم ورزق أنعامهم ، ومن تنعمهم وجمال مرائيهم ؛ فإنهم لو شكروا المنعم بها لكانوا - عندما يبلغهم عنه أنه يدعوهم إلى النظر في الأدلة - مستعدين للنظر ، بتوقع أن تكون الدعوة البالغة إليهم صادقة العزو إلى الله فما خفيت عنهم الدلالة . 
ومناسبة الانتقال من ذكر السماوات إلى ذكر السحاب والمطر قوية . 
والمعصرات : بضم الميم وكسر الصاد السحابات التي تحمل ماء المطر ، واحدتها معصرة اسم فاعل ، من أعصرت السحابة إذا آن لها أن تعصر ، أي : تنزل إنزالا شبيها بالعصر . فهمزة ( أعصر ) تفيد معنى الحينونة ، وهو استعمال موجود ، وتسمى همزة التهيئة ، كما في قولهم : أجز الزرع ، إذا حان له أن يجز ( بزاي في آخره ) ، وأحصد إذا حان وقت حصاده . ويظهر من كلام صاحب الكشاف أن همزة الحينونة تفيد معنى التهيؤ لقبول الفعل ، وتفيد معنى التهيؤ لإصدار الفعل ، فإنه   [ ص: 26 ] ذكر : أعصرت الجارية ، أي : حان وقت أن تصير تحيض ، وذكر ابن قتيبة  في أدب الكاتب : أركب المهر ، إذا حان أن يركب ، وأقطف الكرم ، إذا حان أن يقطف . ثم ذكر : أقطف القوم : حان أن يقطفوا كرومهم ، وأنتجت الخيل : حان وقت نتاجها . 
وفي تفسير ابن عطية  عند قوله تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا  الآية من سورة النور ، والعرب تقول : إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاما جاء بالريح عصر بعضه بعضا فيخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا  ومن ذلك قول حسان    : 
كلتاهما حلب العصير فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل 
أراد حسان  الخمر والماء الذي مزجت به ، أي : هذه من عصير العنب ، وهذه من عصير السحاب ؛ فسر هذا التفسير قاضي البصرة  عبيد الله بن الحسن العنبري  للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان  اهـ . 
والثجاج : المنصب بقوة ، وهو فعال من ثج القاصر إذا انصب ، يقال : ثج الماء ، إذا انصب بقوة ، فهو فعل قاصر . وقد يسند الثج إلى السحاب ، يقال : ثج السحاب يثج بضم الثاء ، إذا صب الماء ، فهو حينئذ فعل متعد . 
ووصف الماء هنا بالثجاج للامتنان . 
وقد بينت حكمة إنزال المطر من السحاب  بأن الله جعله لإنبات النبات من الأرض جمعا بين الامتنان والإيماء إلى دليل تقريب البعث ليحصل إقرارهم بالبعث وشكر الصانع . 
وجيء بفعل ( لنخرج ) دون نحو : لننبت ; لأن المقصود الإيماء إلى تصوير كيفية بعث الناس من الأرض  ؛ إذ ذلك المقصد الأول من هذا الكلام ، ألا ترى أنه لما كان المقصد الأول من آية " سورة ق " هو الامتنان جيء بفعل ( أنبتنا ) في قوله :   [ ص: 27 ] ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات  الآية ، ثم أتبع ثانيا بالاستدلال به على البعث بقوله : كذلك الخروج    . والبعث خروج من الأرض قال تعالى : ومنها نخرجكم تارة أخرى  في سورة طه . 
والحب : اسم جمع حبة وهي البرزة . والمراد بالحب هنا : الحب المقتات للناس ، مثل : الحنطة ، والشعير ، والسلت ، والذرة ، والأرز ، والقطنية ، وهي الحبوب التي هي ثمرة السنابل ونحوها . 
والنبات أصله اسم مصدر نبت الزرع ، قال تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا    . وأطلق النبات على النابت ، من إطلاق المصدر على الفاعل ، وأصله المبالغة ، ثم شاع استعماله فنسيت المبالغة . 
والمراد به هنا : النبات الذي لا يؤكل حبه بل الذي ينتفع بذاته ، وهو ما تأكله الأنعام والدواب ، مثل : التبن ، والقرط ، والفصفصة ، والحشيش ، وغير ذلك . 
وجعلت الجنات مفعولا ل ( نخرج ) على تقدير مضاف ، أي : نخل جنات أو شجر جنات ; لأن الجنات جمع جنة وهي قطعة من الأرض المغروسة نخلا ، أو نخلا وكرما ، أو بجميع الشجر المثمر ، مثل التين والرمان ، كما جاء في مواضع من القرآن ، وهي استعمالات مختلفة باختلاف المنابت . 
ووجه إيثار لفظ جنات أن فيه إيماء إلى إتمام المنة ; لأنهم كانوا يحبون الجنات والحدائق لما فيها من التنعم بالظلال والثمار والمياه وجمال المنظر ، ولذلك أتبعت بوصف ألفافا لأنه يزيدها حسنا ، وإن كان الفلاحون عندنا يفضلون التباعد بين الأشجار ; لأن ذلك أوفر لكمية الثمار ; لأن تباعدها أسعد لها بتخلل الهواء وشعاع الشمس ، لكن مساق الآية هنا الامتنان بما فيه نعيم الناس . 
وألفاف : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وهو مثل أوزاع وأخياف ، أي : كل جنة ملتفة ، أي : ملتفة الشجر بعضه ببعض . 
فوصف الجنة بألفاف مبني على المجاز العقلي ; لأن الالتفاف في أشجارها ، ولكن لما كانت الأشجار لا يلتف بعضها على بعض في الغالب إلا إذا جمعتها جنة ،   [ ص: 28 ] أسند ألفاف إلى جنات بطريق الوصف ، ولعله من مبتكرات القرآن إذ لم أر شاهدا عليه من كلام العرب قبل القرآن . 
وقيل : ألفاف جمع لف - بكسر اللام - بوزن جذع ، أي : كل جنة منها لف - بكسر اللام - ولم يأتوا بشاهد عليه . وذكر في الكشاف أن صاحب الإقليد ذكر بيتا أنشده  الحسن بن علي الطوسي  ولم يعزه إلى قائل ، وفي الكشاف زعم ابن قتيبة  أنه لفاء ولف ثم ألفاف ( أي أن ألفافا جمع الجمع ) ، قال : وما أظنه واجدا له نظيرا . أي : لا يجمع فعل جمعا على أفعال ، أي : لا نظير له ؛ إذ لا يقال : خضر وأخضار ، وحمر وأحمار . يريد أنه لا يخرج الكلام الفصيح على استعمال لم يثبت ورود نظيره في كلام العرب مع وجود تأويل له على وجه وارد . 
فكان أظهر الوجوه أن ألفافا اسم جمع لا واحد له من لفظه . 
وبهذا الاستدلال والامتنان ختمت الأدلة التي أقيمت لهم على انفراد الله تعالى بالإلهية  وتضمنت الإيماء إلى إمكان البعث وما أدمج فيها من المنن عليهم ، عساهم أن يذكروا النعمة فيشعروا بواجب شكر المنعم ولا يستفظعوا إبطال الشركاء في الإلهية ، وينظروا فيما بلغهم عنه من الإخبار بالبعث والجزاء ، فيصرفوا عقولهم للنظر في دلائل تصديق ذلك . 
وقد ابتدئت هذه الدلائل بدلائل خلق الأرض وحالتها وجالت بهم الذكرى على أهم ما على الأرض من الجماد والحيوان ، ثم ما في الأفق من أعراض الليل والنهار ، ثم تصاعد بهم التجوال بالنظر في خلق السماوات وبخاصة الشمس ، ثم نزل بهم إلى دلائل السحاب والمطر فنزلوا معه إلى ما يخرج من الأرض من بدائع الصنائع ومنتهى المنافع ، فإذا هم ينظرون من حيث صدروا وذلك من رد العجز على الصدر . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					