وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم   عطف على جملة " وحاجه قومه " . وتلك إشارة إلى جميع ما تكلم به إبراهيم  في محاجة قومه ، وأتي باسم إشارة المؤنث لأن المشار إليه حجة فأخبر عنه بحجة فلما لم يكن مشار إليه محسوس تعين أن يعتبر في الإشارة لفظ الخبر لا غير ، كقوله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض    . 
 [ ص: 335 ] وإضافة الحجة إلى اسم الجلالة للتنويه بشأنها وصحتها . 
و " آتيناها " في موضع الحال من اسم الإشارة أو من الخبر . 
وحقيقة الإيتاء الإعطاء ، فحقه أن يتعدى إلى الذوات ، ويكون بمناولة اليد إلى اليد . قال تعالى وآتى المال على حبه ذوي القربى  ولذلك يقال : اليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي المعطاة . ويستعمل مجازا شائعا في تعليم العلوم وإفادة الآداب الصالحة وتخويلها وتعيينها لأحد دون مناولة يد سواء كانت الأمور الممنوحة ذواتا أم معاني . يقال : آتاه الله مالا ، ويقال : آتاه الخليفة إمارة وآتاه الله الملك وآتيناه الحكمة . فإيتاء الحجة إلهامه إياها وإلقاء ما يعبر عنها في نفسه ، وهو فضل من الله على إبراهيم  إذ نصره على مناظريه . 
و على للاستعلاء المجازي ، وهو تشبيه الغالب بالمستعلي المتمكن من المغلوب ، وهي متعلقة بحجتنا خلافا لمن منعه . يقال : هذا حجة عليك وشاهد عليك ، أي تلك حجتنا على قومه أقحمناهم بها بواسطة إبراهيم ،  ويجوز أن يتعلق بـ " آتيناها " لما يتضمنه الإيتاء من معنى النصر . 
وجملة نرفع درجات من نشاء  حال من ضمير الرفع في آتيناها أو مستأنفة لبيان أن مثل هذا الإيتاء تفضيل للمؤتى وتكرمة له . 
ورفع الدرجات تمثيل لتفضيل الشأن ، شبهت حالة المفضل على غيره بحال المرتقي في سلم إذا ارتفع من درجة إلى درجة ، وفي جميعها رفع ، وكل أجزاء هذا التمثيل صالح لاعتبار تفريق التشبيه ، فالتفضيل يشبه الرفع ، والفضائل المتفاوتة تشبه الدرجات ، ووجه الشبه عزة حصول ذلك لغالب الناس . 
وقرأ نافع ،  وابن كثير ،  وأبو عمرو ،  وابن عامر ،  وأبو جعفر ،  بإضافة " درجات " إلى " من " . فإضافة الدرجات إلى اسم الموصول باعتبار ملابسة المرتقي في الدرجة لها لأنها إنما تضاف إليه إذا كان مرتقيا عليها ،   [ ص: 336 ] والإتيان بصيغة الجمع في درجات باعتبار صلاحية من نشاء لأفراد كثيرين متفاوتين في الرفعة ، ودل فعل المشيئة على أن التفاضل بينهم بكثرة موجبات التفضيل ، أو الجمع باعتبار أن المفضل الواحد يتفاوت حاله في تزايد موجبات فضله . وقرأه البقية بتنوين درجات ، فيكون تمييزا لنسبة الرفع باعتبار كون الرفع مجازا في التفضيل ، والدرجات مجازا في الفضائل المتفاوتة . 
ودل قوله " من نشاء " على أن هذا التكريم لا يكون لكل أحد لأنه لو كان حاصلا لكل الناس لم يحصل الرفع ولا التفضيل . 
وجملة إن ربك حكيم عليم  مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن قوله نرفع درجات من نشاء  يثير سؤالا ، يقول : لماذا يرفع بعض الناس دون بعض ، فأجيب بأن الله يعلم مستحق ذلك ومقدار استحقاقه ويخلق ذلك على حسب تعلق علمه . فحكيم بمعنى محكم ، أي متقن للخلق والتقدير . 
وقدم حكيم على عليم لأن هذا التفضيل مظهر للحكمة ثم عقب بـ عليم ليشير إلى أن ذلك الإحكام جار على وفق العلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					