فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين   
هذا تخلص من محاجة المشركين وبيان ضلالهم المذيل بقوله : إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين  ، انتقل الكلام من ذلك إلى تبيين شرائع هدى للمهتدين ، وإبطال شرائع شرعها المضلون ، تبيينا يزيل التشابه والاختلاط ، ولذلك خللت الأحكام المشروعة للمسلمين بأضدادها التي كان شرعها المشركون وسلفهم . 
وما تشعر به الفاء من التفريع يقضي باتصال هذه الجملة بالتي قبلها ، ووجه ذلك أن قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله  
 [ ص: 31 ] تضمن إبطال ما ألقاه المشركون من الشبهة على المسلمين في تحريم الميتة ، إذ قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم تزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتل الكلب والصقر حلال أكله ، وأن ما قتل الله حرام ، وأن ذلك مما شمله قوله تعالى : وإن هم إلا يخرصون فلما نهى الله عن اتباعهم ، وسمى شرائعهم خرصا ، فرع عليه هنا الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه ؛ أي : عند قتله ؛ أي : ما نحر أو ذبح وذكر اسم الله عليه ، والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه  ، ومنه الميتة ، فإن الميتة لا يذكر اسم الله عليها ، ولذلك عقبت هذه الآية بآية وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون    . 
فتبين أن الفاء للتفريع على معلوم من المراد من الآية السابقة . 
والأمر في قوله : فكلوا للإباحة ، ولما لم يكن يخطر ببال أحد أن ما ذكر اسم الله عليه يحرم أكله ؛ لأن هذا لم يكن معروفا عند المسلمين ولا عند المشركين ، علم أن المقصود من الإباحة ليس رفع الحرج ، ولكن بيان ما هو المباح ، وتمييزه عن ضده من الميتة وما ذبح على النصب ، والخطاب للمسلمين . 
وقوله : مما ذكر اسم الله عليه  دل على أن الموصول صادق عن الذبيحة ؛ لأن العرب كانوا يذكرون عند الذبح أو النحر اسم المقصود بتلك الذكاة ، يجهرون بذكر اسمه ، ولذلك قيل فيه : أهل به لغير الله  أي : أعلن ، والمعنى كلوا المذكى ولا تأكلوا الميتة ، فما ذكر اسم الله عليه كناية عن المذبوح ؛ لأن التسمية إنما تكون عند الذبح . 
وتعليق فعل الإباحة بما ذكر اسم الله عليه أفهم أن غير ما ذكر اسم الله عليه لا يأكله المسلمون ، وهذا الغير يساوي معناه ما ذكر اسم غير الله عليه ؛ لأن عادتهم أن يذبحوا ذبيحة إلا ذكروا عليها اسم الله ، إن كانت هديا في الحج ، أو ذبيحة للكعبة ، وإن كانت قربانا للأصنام   [ ص: 32 ] أو للجن ذكروا عليها اسم المتقرب إليه ، فصار قوله : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه  مفيدا النهي عن أكل ما ذكر اسم غير الله عليه ، والنهي عما لم يذكر عليه اسم الله ولا اسم غير الله ؛ لأن ترك ذكر اسم الله بينهم لا يكون إلا لقصد تجنب ذكره . 
وعلم من ذلك أيضا النهي عن أكل الميتة  ونحوها ، مما لم تقصد ذكاته ؛ لأن ذكر اسم الله أو اسم غيره إنما يكون عند إرادة ذبح الحيوان ، كما هو معروف لديهم ، فدلت هذه الجملة على تعيين أكل ما ذكي دون الميتة ، بناء على عرف المسلمين ؛ لأن النهي موجه إليهم ، ومما يؤيد ذلك ما في الكشاف أن الفقهاء تأولوا قوله الآتي : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه  بأنه أراد به الميتة ، وبناء على فهم أن يكون قد ذكر اسم الله عليه عند ذكاته دون ما ذكر عليه اسم غير الله ؛ أخذا من مقام الإباحة والاقتصار فيه على هذا دون غيره ، وليس في الآية صيغة قصر ، ولا مفهوم مخالفة ، ولكن بعضها من دلالة صريح اللفظ ، وبعضها من سياقه ، وهذه الدلالة الأخيرة من مستتبعات التراكيب المستفادة بالعقل التي لا توصف بحقيقة ولا مجاز . 
وبهذا يعلم أن لا علاقة للآية بحكم نسيان التسمية عند الذبح  ، فإن تلك مسألة أخرى لها أدلتها ، وليس من شأن التشريع القرآني التعرض للأحوال النادرة . 
و ( على ) للاستعلاء المجازي ، تدل على شدة اتصال فعل الذكر بذات الذبيحة ، بمعنى أن يذكر اسم الله عليها عند مباشرة الذبح لا قبله أو بعده . 
وقوله : إن كنتم بآياته مؤمنين  تقييد للاقتصار المفهوم : من فعل الإباحة ، وتعليق المجرور به ، وهو تحريض على التزام ذلك ، وعدم التساهل فيه ، حتى جعل من علامات كون فاعله مؤمنا ، وذلك حيث كان شعار أهل الشرك ذكر اسم غير الله على معظم الذبائح . 
 [ ص: 33 ] فأما ترك التسمية    : فإن كان لقصد تجنب ذكر اسم الله فهو مساو لذكر اسم غير الله ، وإن كان لسهو فحكمه يعرف من أدلة غير هذه الآية ، منها قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا  وأدلة أخرى من كلام النبيء صلى الله عليه وسلم . 
				
						
						
