المسألة الثانية : 
اعلم أن الاجتهاد في الأحكام في الشرع  دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة ، منها هذا الذي ذكرنا هنا . وقد قدمنا في سورة بني " إسرائيل " طرفا من ذلك ، ووعدنا بذكره مستوفى في هذه السورة الكريمة وسورة الحشر ، وهذا أوان الوفاء بذلك الوعد في هذه السورة الكريمة . وقد علمت مما مر في سورة " بني إسرائيل    " أنا ذكرنا طرفا من الأدلة على الاجتهاد فبينا إجماع العلماء على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بالإلحاق بنفي الفارق الذي يسميه  الشافعي  القياس في معنى الأصل ، وهو تنقيح المناط . وأوضحنا أنه لا ينكره إلا مكابر ، وبينا الإجماع أيضا على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بتحقيق المناط ، وأنه لا ينكره إلا مكابر ، وذكرنا أمثلة له في الكتاب والسنة ، وذكرنا أحاديث دالة على الاجتهاد ، منها الحديث المتفق عليه المتقدم ، ومنها حديث معاذ  حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن  ، وقد وعدنا بأن نذكر طرقه هنا إلى آخر ما ذكرنا هناك . 
 [ ص: 173 ] اعلم أن جميع روايات هذا الحديث المذكورة في المسند والسنن كلها من طريق شعبة  ، عن أبي عون  ، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة  ، عن أناس من أصحاب معاذ  ، عن معاذ  ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . 
أما الرواية المتصلة الصحيحة التي ذكرنا سابقا عن  ابن قدامة  في ( روضة الناظر ) أن  عبادة بن نسي  رواه عن  عبد الرحمن بن غنم  ، عن معاذ  ، فهذا الإسناد وإن كان متصلا ورجاله معروفون بالثقة ، فإني لم أقف على من خرج هذا الحديث من هذه الطريق ، إلا ما ذكره العلامة ابن القيم  في ( إعلام الموقعين ) عن  أبي بكر الخطيب  بلفظ : وقد قيل إن  عبادة بن نسي  رواه عن  عبد الرحمن بن غنم  ، عن معاذ    . ا هـ منه . ولفظة " قيل " صيغة تمريض كما هو معروف ، وإلا ما ذكره ابن كثير  في تاريخه ، فإنه لما ذكره فيه حديث معاذ  المذكور باللفظ الذي ذكرنا بالإسناد الذي أخرجه به  الإمام أحمد  قال : وأخرجه أبو داود  ،  والترمذي  من حديث شعبة  به . وقال الترمذي    : لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده عندي بمتصل . ثم قال ابن كثير    : وقد رواه  ابن ماجه  من وجه آخر عنه ، إلا أنه من طريق محمد بن سعيد بن حسان  وهو المصلوب أحد الكذابين ، عن  عبادة بن نسي  ، عن عبد الرحمن  ، عن معاذ  به نحوه . 
واعلم أن النسخة الموجودة بأيدينا من تاريخ ابن كثير  التي هي من الطبعة الأولى سنة ( 1351 ) فيها تحريف مطبعي في الكلام الذي ذكرنا ؛ ففيها محمد بن سعد بن حسان  ، والصواب  محمد بن سعيد  لا سعد    . وفيها : عن عياذ بن بشر  ، والصواب عن  عبادة بن نسي    . 
وما ذكره ابن كثير  من إخراج  ابن ماجه  لحديث معاذ  المذكور من طريق محمد بن سعيد المصلوب  ، عن  عبادة بن نسي  ، عن  عبد الرحمن وهو ابن غنم  ، عن معاذ    - لم أره في سنن  ابن ماجه  ، والذي في سنن  ابن ماجه  بالإسناد المذكور من حديث معاذ  غير المتن المذكور ، وهذا لفظه : حدثنا الحسن بن حماد  سجادة ، حدثنا  يحيى بن سعيد الأموي  ، عن محمد بن سعيد بن حسان  ، عن  عبادة بن نسي  ، عن  عبد الرحمن بن غنم  ، حدثنا  معاذ بن جبل  ، قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن  ، قال : " لا تقضين ، ولا تفصلن إلا بما تعلم ، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه أو تكتب إلي فيه " ا هـ منه . وما أدري أوهم الحافظ بن كثير  فيما ذكر ؟ أو هو يعتقد أن معنى " تبينه " في الحديث أي : تعلمه باجتهادك في استخراجه من المنصوص ، فيرجع إلى معنى الحديث المذكور ؟ وعلى كل حال   [ ص: 174 ] فالرواية المذكورة من طريق  عبادة بن نسي  ، عن ابن غنم  ، عن معاذ  ، فيها كذاب وهو  محمد بن سعيد  المذكور الذي قتله  أبو جعفر المنصور  في الزندقة وصلبه . وقال أحمد بن صالح    : وضع أربعة آلاف حديث . فإذا علمت بهذا انحصار طرق الحديث المذكور الذي فيه أن معاذا  قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه إن لم يجد المسألة في كتاب الله ، ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتهد فيها رأيه ، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في الطريقتين المذكورتين - علمت وجه تضعيف الحديث ممن ضعفه ، وأنه يقول : طريق  عبادة بن نسي  ، عن ابن غنم  لم تسندوها ثابتة من وجه صحيح إليه ، والطريق الأخرى التي في المسند ، والسنن فيها الحارث بن أخي المغيرة  وهو مجهول ، والرواة فيها أيضا عن معاذ  مجاهيل - فمن أين قلتم بصحتها ؟ وقد قدمنا أن ابن كثير  قال في مقدمة تفسيره : إن الطريقة المذكورة في المسند ، والسنن بإسناد جيد . وقلنا : لعله يرى أن الحارث  المذكور ثقة ، وقد وثقه  ابن حبان  ، وأن أصحاب معاذ  لا يعرف فيهم كذاب ، ولا متهم . 
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ويؤيد ما ذكرنا عن مراد ابن كثير  بجودة الإسناد المذكور ما قاله العلامة ابن القيم  في إعلام الموقعين ، قال فيه : وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا  على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله ، فقال شعبة    : حدثني أبو عون  عن الحارث بن عمرو  ، عن أناس من أصحاب معاذ    : أن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن  قال : " كيف تصنع إن عرض لك قضاء " ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله . قال : " فإن لم يكن في كتاب الله " ؟ قال : فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال " فإن لم يكن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ؟ قال : أجتهد رأيي ، لا آلو . فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري ثم قال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله "   . فهذا حديث إن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ  ، فلا يضره ذلك ؛ لأنه يدل على شهرة الحديث ، وأن الذي حدث له الحارث بن عمرو  عن جماعة من أصحاب معاذ  ، لا واحد منهم ، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمي ، كيف وشهرة أصحاب معاذ  بالعلم ، والدين ، والفضل ، والصدق بالمحل الذي لا يخفى ، ولا يعرف في أصحابه متهم ، ولا كذاب ، ولا مجروح ، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ، ولا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك ، كيف وشعبة  حامل لواء هذا الحديث ؟ وقال بعض أئمة الحديث : إذا رأيت شعبة  في إسناد حديث فاشدد يديك به . قال  أبو بكر الخطيب    : وقد قيل : إن  عبادة بن نسي  رواه عن  عبد الرحمن بن غنم  ، عن معاذ  ، وهذا إسناد متصل ، ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل   [ ص: 175 ] العلم قد نقلوه واحتجوا به . فوقفنا بذلك على صحته عندهم ، كما وقفنا بذلك على صحة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :   " لا وصية لوارث " ، وقوله في البحر :   " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " ، وقوله :   " إذا اختلف المتبايعان في الثمن ، والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع " ، وقوله :   " الدية على العاقلة "   . وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها . فكذلك حديث معاذ  لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له . انتهى منه . وحديث  عمرو بن العاص   وأبي هريرة  الثابت في الصحيحين شاهد له كما قدمنا ، وله شواهد غير ذلك ستراها إن شاء الله تعالى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					