الفرع الرابع : اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيمن يبدأ بالرجم  فقال بعضهم : إن كان الزنا ثابتا ببينة ، فالسنة أن يبدأ الشهود بالرجم ، وإن كان ثبت بإقرار بدأ به الإمام أو الحاكم ، إن كان ثبت عنده ، ثم يرجم الناس بعده ، وهذا مذهب أبي حنيفة  ، وأحمد  ، ومن وافقهما ، واستدلوا لبداءة الشهود ، وبداءة الإمام بما ذكره  ابن قدامة  في الفقه الحنبلي ، وصاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي . 
قال صاحب " المغني " : وروى سعيد  بإسناده عن علي    - رضي الله عنه - ، أنه قال :   [ ص: 403 ] الرجم رجمان ، فما كان منه بإقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس ، وما كان ببينة ، فأول من يرجم البينة ثم الناس   ; ولأن فعل ذلك أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه ، اهـ منه . 
وحاصل هذا الاستدلال : أثر مروي عن علي  ، وكون مباشرتهم الرمي بالفعل أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه ، وهذا كأنه استدلال عقلي لا نقلي ، اهـ . 
وقال صاحب " تبيين الحقائق " في شرحه لقول صاحب " كنز الدقائق " : يبدأ الشهود به فإن أبوا سقط ثم الإمام ثم الناس ، ويبدأ الإمام ولو مقرا ثم الناس . 
ما نصه : أي يبدأ الشهود بالرجم . وقال  الشافعي    : لا تشترط بداءتهم اعتبارا بالجلد ، ولنا ما روي عن علي    - رضي الله عنه - أنه قال حين رجم شراحة الهمدانية    : إن الرجم سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم   - ، ولو كان شهد على هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد يشهد ، ثم يتبع شهادته حجره ولكنها أقرت فأنا أول من رماها بحجر ، قال الراوي : ثم رمى الناس وأنا فيهم ، ولأن الشاهد ربما يتجاسر على الشهادة ثم يستعظم المباشرة فيأبى أو يرجع ، فكان في بداءته احتيال للدرء بخلاف الجلد ، فإن كل أحد لا يحسنه ، فيخاف أن يقع مهلكا أو متلفا لعضو ، وهو غير مستحق ولا كذلك الرجم ; لأن الإتلاف فيه متعين . 
قال - رحمه الله - : فإن أبوا سقط ، أي : إن أبى الشهود من البداءة سقط الحد لأنه دلالة الرجوع ، وكذلك إن امتنع واحد منهم ، أو جنوا ، أو فسقوا ، أو قذفوا فحدوا أو أحدهم ، أو عمي ، أو خرس ، أو ارتد ، والعياذ بالله تعالى ; لأن الطارئ على الحد قبل الاستيفاء كالموجود في الابتداء ، وكذا إذا غابوا أو بعضهم ، أو ماتوا أو بعضهم لما ذكرنا ، وهذا عند أبي حنيفة  ومحمد    - رحمهما الله تعالى - ، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف  ، وروي عنه أنهم إذا امتنعوا أو ماتوا أو غابوا ، رجم الإمام ، ثم الناس ، وإن كان الشهود مرضى لا يستطيعون أن يرموا أو مقطوعي الأيدي رجم بحضرتهم بخلاف ما إذا قطعت أيديهم بعد الشهادة ، ذكره في النهاية . 
قال - رحمه الله - : ثم الإمام ثم الناس لما روينا من أثر علي    - رضي الله عنه - ، ويقصدون بذلك مقتله إلا من كان منهم ذا رحم محرم منه ، فإنه لا يقصد مقتله ; لأن بغيره كفاية . 
وروي أن حنظلة  استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبيه ، وكان كافرا فمنعه من ذلك ، وقال " : دعه يكفيك غيرك   " ; ولأنه مأمور بصلة الرحم ، فلا يجوز القطع من غير حاجة . 
 [ ص: 404 ] قال - رحمه الله - : ويبدأ الإمام ، ولو مقرا ثم الناس ، أي : يبدأ الإمام بالرجم إن كان الزاني مقرا لما روينا من أثر علي    - رضي الله عنه - ; ورمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغامدية  بحصاة مثل الحمصة ، ثم قال للناس " : ارموا " ، وكانت أقرت بالزنا ، انتهى محل الغرض من " تبيين الحقائق " ممزوجا بنص " كنز الدقائق " . 
هذا حاصل ما استدل به من قال ببداءة الشهود أو الإمام . 
وذهب مالك  وأصحابه ومن وافقهم ، إلى أنه لا تعيين لمن يبدأ من شهود ولا إمام ، ولا غيرهم ، واحتج مالك  لهذا بأنه لم يعلم أحدا من الأئمة تولى ذلك بنفسه ، ولا ألزم به البينة . 
قال الشيخ المواق  في شرحه لقول خليل  في مختصره المالكي : ولم يعرف بداءة البينة ، ولا الإمام ، ما نصه : قال مالك : مذ أقامت الأئمة الحدود ، فلم نعلم أحدا منهم تولى ذلك بنفسه ، ولا ألزم ذلك البينة خلافا لأبي حنيفة  القائل : إن ثبت الزنا ببينة بدأ الشهود ثم الإمام ثم الناس ، اهـ منه ، واستدل له بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبدأ برجم ماعز  ، وأنه قال لأنيس    " : فإن اعترفت فارجمها   " ، ولم يحضر - صلى الله عليه وسلم - ليبدأ برجمها ، وقول مالك    - رحمه الله - إنه لم يعلم أحدا تولى ذلك بنفسه من الأئمة ، ولا ألزم به البينة يدل على أنه لم يبلغه أثر علي أو بلغه ولم يصح عنده . وكذلك الحديث المرفوع الذي استدل به القائلون ببداءة الشهود والإمام ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى الغامدية  بحصاة كالحمصة ، ثم قال للناس " : ارموا "   . 
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما هذا الحديث المرفوع ، فليس بثابت ، ولا يصلح للاحتجاج ; لأن في إسناده راويا مبهما . 
قال أبو داود    - رحمه الله - في سننه : حدثنا  عثمان بن أبي شيبة  ، حدثنا  وكيع بن الجراح  ، عن زكريا أبي عمران  ، قال : سمعت شيخا يحدث عن ابن أبي بكرة ،  عن أبيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة ، ثم قال أبو داود    : حدثت عن  عبد الصمد بن عبد الوارث  ، قال : حدثنا زكرياء بن سليم  بإسناده نحوه زاد : 
ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ، ثم قال " : ارموا واتقوا الوجه " الحديث ، وهذا الإسناد الذي فيه زيادة ، ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ، هو بعينه الإسناد الذي فيه قال : سمعت شيخا يحدث عن ابن أبي بكرة  ، وهذا الشيخ الذي حدث عن ابن أبي بكرة  لم يدر أحد من هو ، فهو مبهم ، والمبهم   [ ص: 405 ] مجهول العين والعدالة ، فلا يحتج به ، كما ترى . وقال صاحب " نصب الراية " في هذا الحديث بعد أن ذكر رواية أبي داود  التي سقناها آنفا : رواه  النسائي  في الرجم . 
حدثنا محمد بن حاتم  عن  حبان بن موسى  ، عن عبد الله  ، عن زكريا أبي عمران البصري  ، قال : سمعت شيخا يحدث عن  عبد الرحمن بن أبي بكرة  بهذا الحديث بتمامه ، ورواه البزار  في مسنده  والطبراني  في معجمه . 
قال البزار    : ولا نعلم أحدا سمى هذا الشيخ وتراجع ألفاظهم ، وذكره عبد الحق  في أحكامه من جهة  النسائي  ، ولم يعله بغير الانقطاع ، اهـ منه ، وأي علة أعظم من الانقطاع بإبهام الشيخ المذكور . 
فتحصل أن الحديث المرفوع ضعيف ليس بصالح للاحتجاج . 
أما الأثر المروي عن علي    - رضي الله عنه - ، فقد قال البيهقي  في سننه الكبرى في باب من اعتبر حضور الإمام والشهود ، وبداءة الإمام بالرجم ، ما نصه : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ  ، حدثنا  أبو العباس محمد بن يعقوب  ، ثنا  محمد بن إسحاق الصغاني  ، ثنا أبو الجواب  ، ثنا عمار هو ابن رزيق  ، عن أبي حصين  عن  الشعبي  ، قال : أتي علي    - رضي الله عنه - بشراحة الهمدانية  قد فجرت فردها حتى ولدت ، فلما ولدت قال : ائتوني بأقرب النساء منها ، فأعطاها ولدها ثم جلدها ورجمها ، ثم قال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بالسنة ، ثم قال : أيما امرأة نعي عليها ولدها أو كان اعتراف ، فالإمام أول من يرجم ، ثم الناس ، فإن نعاها الشهود فالشهود أول من يرجم ، ثم الإمام ، ثم الناس   . وأخبرنا  أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي  ، أنبأ  أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني  ، ثنا محمد بن عبد الوهاب  ، أنبأ  جعفر بن عون  ، أنبأ الأجلح  عن  الشعبي  ، قال : جيء بشراحة الهمدانية  إلى علي    - رضي الله عنه - ، فقال لها : ويلك لعل رجلا وقع عليك وأنت نائمة ؟ قالت : لا ، قال لعلك استكرهت ؟ قالت : لا ، قال : لعل زوجك من عدونا هذا أتاك فأنت تكرهين أن تدلي عليه ، يلقنها لعلها تقول نعم ، قال : فأمر بها فحبست ، فلما وضعت ما في بطنها أخرجها يوم الخميس فضربها مائة ، وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة  فأحاط الناس بها ، وأخذوا الحجارة ، فقال : ليس هكذا الرجم ، إنما يصيب بعضكم بعضا ، صفوا كصف الصلاة صفا خلف صف ; ثم قال : أيها الناس أيما امرأة جيء بها وبها حبل ، يعني : أو اعترفت ، فالإمام أول من يرجم ، ثم الناس ، وأيما امرأة جيء بها أو رجل زان فشهد عليه أربعة بالزنا   [ ص: 406 ] فالشهود أول من يرجم ، ثم الإمام ثم الناس ، ثم أمرهم فرجم صف ثم صف ، ثم قال : افعلوا بها ما تفعلون بموتاكم   . 
قال الشيخ - رحمه الله - : قد ذكرنا أن جلد الثيب صار منسوخا ، وأن الأمر صار إلى الرجم فقط ، اهـ ، من السنن الكبرى بلفظه ، وذلك يدل على أن المرجوم يغسل ويكفن ويصلى عليه  ، وهو كذلك ، وقد جاءت النصوص بالصلاة على المرجوم ; كما هو معلوم . 
وقال صاحب " نصب الراية " في أثر علي  هذا ، ما نصه : قلت : أخرجه البيهقي  في سننه عن الأجلح  عن  الشعبي  ، قال : جيء بشراحة الهمدانية  إلى علي    - رضي الله عنه - إلى آخر ما ذكرنا ، عن البيهقي  باللفظ الذي سقناه به ، والعجب من صاحب نصب الراية ، حيث اقتصر على رواية البيهقي  للأثر المذكور من طريق الأجلح  عن  الشعبي  ، ولم يشر إلى الرواية الأولى التي سقناها التي الراوي فيها عن الشعبي أبو حصين  فاقتصاره على رواية الأجلح  عن  الشعبي  وتركه للرواية التي ذكرنا أولا لا وجه له . 
والأجلح  المذكور في الإسناد المذكور ، هو : ابن عبد الله بن حجية  بالمهملة والجيم مصغرا ، ويقال : ابن معاوية  ، يكنى أبا حجية الكندي  ، ويقال : اسمه يحيى  ، قال فيه ابن حجر  في " التقريب " : صدوق شيعي ، وقال عنه في " تهذيب التهذيب " : قال القطان    : في نفسي منه شيء ، وقال أيضا : ما كان يفصل بين الحسين بن علي  وعلي بن الحسين    . وقال أحمد    : أجلح   ومجالد  متقاربان في الحديث ، وقد روى الأجلح  غير حديث منكر ، وقال عبد الله بن أحمد  عن أبيه : ما أقرب الأجلح  من  فطر بن خليفة  ، وقال  ابن معين    : صالح ، وقال مرة : ثقة ، وقال مرة : ليس به بأس ، وقال العجلي    : كوفي ثقة ، وقال أبو حاتم    : ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به ، وقال  النسائي    : ضعيف ليس بذاك ، وكان له رأي سوء ، وقال الجوزجاني    : مفتر ، وقال  ابن عدي    : له أحاديث صالحة ، ويروي عنه الكوفيون وغيرهم ، ولم أر له حديثا منكرا مجاوزا للحد لا إسنادا ولا متنا إلا أنه يعد في شيعة الكوفة  ، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق . وقال شريك  عن الأجلح    : سمعنا أنه ما يسب أبا بكر  وعمر  أحد إلا مات قتلا أو فقيرا ، وقال عمرو بن علي    : مات سنة مائة وخمس وأربعين في أول السنة ، وهو رجل من بجيلة  مستقيم الحديث صدوق . 
قلت : ليس هو من بجيلة  ، وقال أبو داود    : ضعيف ، وقال مرة : زكريا  أرفع منه بمائة درجة ، وقال ابن سعد    : كان ضعيفا جدا ، وقال  العقيلي    : روى عن  الشعبي  أحاديث   [ ص: 407 ] مضطربة لا يتابع عليها ، وقال  يعقوب بن سفيان    : ثقة ، حديثه لين ، وقال  ابن حبان    : كان لا يدري ما يقول جعل أبا سفيان  أبا الزبير  ، انتهى منه . 
وقد رأيت كثرة الاختلاف في الأجلح  المذكور إلا أن روايته لهذا الأثر عن  الشعبي  عن علي  تعتضد برواية أبي الحصين  له عن  الشعبي  ، عن علي  ، وأبو حصين  المذكور ، هو بفتح الحاء ، وهو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي  أخرج له الجميع ، وقال فيه في " التقريب " : ثقة ثبت سني وربما دلس ، اهـ . 
وإذا علمت أقوال أهل العلم في بداءة الشهود والإمام بالرجم  وما احتج به كل منهم . 
فاعلم : أن أظهر القولين هو قول من قال ببداءة الشهود أو الإمام ، كما ذكرنا ، وقول الإمام مالك    - رحمه الله - : إنه لم يعلم أحدا من الأئمة فعله ، يقتضي أنه لم يبلغه أثر علي    - رضي الله عنه - المذكور ، ولو بلغه لعمل به ، والظاهر أن له حكم الرفع ; لأنه لا يظهر أنه يقال من جهة الرأي ، وإن كان الكلام الذي قدمنا عن صاحب " المغني " ، وصاحب " تبيين الحقائق " يقتضي أن مثله يقال بطريق الرأي للتعليل الذي عللوا به القول به ، وقال صاحب " نصب الراية " بعد أن ذكر رواية البيهقي  للأثر المذكور عن علي من طريق الأجلح  ، عن  الشعبي  ما نصه : ورواه أحمد  في مسنده ، عن  يحيى بن سعيد  ، عن مجالد  ، عن  الشعبي  ، ثم ساق متن رواية  الإمام أحمد  بنحو ما قدمنا ، ثم قال : ورواه  ابن أبي شيبة  في مصنفه : حدثنا  عبد الله بن إدريس  ، عن يزيد  ، عن  عبد الرحمن بن أبي ليلى  أن عليا    - رضي الله عنه - ، ثم ساق الأثر بنحو ما قدمنا ، ثم قال : حدثنا  أبو خالد الأحمر  ، عن حجاج  ، عن الحسن بن سعيد  ، عن  عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود  ، عن علي  ، ثم ساق الأثر المذكور بنحو ما قدمنا ، اهـ . 
وهذه الروايات يعضد بعضها بعضا وهي تدل على أن عليا  كان يقول ببداءة الإمام في الإقرار وبداءة الشهود في البينة ، وإن كان له حكم الرفع فالأمر واضح ، وإن كان له حكم الوقف فهي فتوى وفعل من خليفة راشد ، ولم يعلم أن أحدا أنكر عليه ، ولهذا استظهرنا بداءة البينة والإمام في الرجم ، والعلم عند الله تعالى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					