التنبيه الثالث 
اعلم أن المقلدين للأئمة هذا التقليد الأعمى قد دل كتاب الله ، وسنة رسوله ، وإجماع من يعتد به من أهل العلم ، أنه لا يجوز لأحد منهم أن يقول : هذا حلال وهذا حرام ; لأن الحلال ما أحله الله ، على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه أو سنة رسوله  ، والحرام ما حرمه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه ، أو سنة رسوله    . 
ولا يجوز البتة للمقلد أن يزيد على قوله : هذا الحكم قاله الإمام الذي قلدته أو أفتى به . 
أما دلالة القرآن على منع ذلك فقد قال تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون    [ 10 \ 59 ] ، وقال تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون    [ 16 \ 116 ] ، وقال تعالى : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا    . 
ومعلوم أن العبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب كما بيناه مرارا ، وأوضحنا أدلته من السنة الصحيحة . 
ومما يوضح هذا أن المقلد الذي يقول : هذا حلال وهذا حرام من غير علم بأن الله حرمه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - يقول على الله بغير علم قطعا . 
فهو داخل بلا شك في عموم قوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون    [ 7 \ 33 ] . 
فدخوله في قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون  كما   [ ص: 349 ] ترى ، وهو داخل أيضا في عموم قوله تعالى : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون    [ 2 \ 169 ] . 
وأما السنة ، فقد قال  مسلم بن الحجاج  في صحيحه : حدثنا  أبو بكر بن أبي شيبة  ، حدثنا  وكيع بن الجراح  عن سفيان    . ح ، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم  ، أخبرنا  يحيى بن آدم  ، حدثنا سفيان  ، قال : أملاه علينا إملاء . 
ح وحدثني  عبد الله بن هاشم    - واللفظ له - حدثني  عبد الرحمن يعني ابن مهدي  ، حدثنا سفيان  عن  علقمة بن مرثد  عن  سليمان بن بريدة  عن أبيه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : " اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله   " الحديث . 
وفيه : " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري ، أتصيب حكم الله فيهم أم لا   " . هذا لفظ مسلم  في صحيحه . 
وفيه النهي الصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسبة حكم إلى الله ، حتى يعلم بأن هذا حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم ، ولأجل هذا كان أهل العلم لا يتجرءون على القول بالتحريم والتحليل إلا بنص  من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم . 
قال  أبو عمر بن عبد البر  رحمه الله في جامعه : حدثنا  عبد الوارث بن سفيان  ، قال : حدثنا  قاسم بن أصبغ  ، قال : حدثنا  ابن وضاح  ، قال : حدثنا  يوسف بن عدي  ، قال : حدثنا  عبيدة بن حميد  عن  عطاء بن السائب  ، قال : قال  الربيع بن خيثم    : إياكم أن يقول الرجل في شيء : إن الله حرم هذا أو نهى عنه ، فيقول الله : كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه   . 
قال : أو يقول : إن الله أحل هذا وأمر به ، فيقول : كذبت لم أحله ولم آمر به . 
وذكر ابن وهب  وعتيق بن يعقوب  أنهما سمعا  مالك بن أنس  يقول : لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء : هذا حلال وهذا حرام . 
ما كانوا يجترئون على ذلك ، وإنما كانوا يقولون : نكره هذا ، ونرى هذا حسنا ، ونتقي هذا ، ولا نرى هذا . 
 [ ص: 350 ] وزاد عتيق بن يعقوب    : ولا يقولون حلال وحرام . 
أما سمعت قول الله عز وجل : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون    [ 10 \ 59 ] . 
الحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله . 
قال أبو عمر    : معنى قول مالك  هذا أن ما أخذ من العلم رأيا واستحسانا لم نقل فيه حلال ولا حرام والله أعلم . انتهى محل الغرض منه . 
وقال أبو عبد الله القرطبي  رحمه الله في تفسيره في الكلام على قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام    [ 16 \ 116 ] ما نصه : أسند  الدارمي أبو محمد  في مسنده أخبرنا هارون  عن حفص  عن  الأعمش  ، قال : ما سمعت إبراهيم  قط يقول : حلال ولا حرام ، ولكن كان يقول : كانوا يكرهون وكانوا يستحبون   . 
وقال ابن وهب    : قال مالك    : لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام . 
ولكن يقولون : إياكم وكذا وكذا . ولم أكن لأصنع هذا . 
ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يكون البارئ تعالى صرح بذلك عنه . 
وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول : إني أكره كذا . 
وكذلك كان مالك  يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى . انتهى محل الغرض منه . 
وإذا كان مالك   وإبراهيم النخعي  وغيرهما من أكابر أهل العلم لا يتجرءون أن يقولوا في شيء من مسائل الاجتهاد والرأي : هذا حلال أو حرام . 
فما ظنك بغيرهم من المقلدين الذين لم يستضيئوا بشيء من نور الوحي ؟ 
فتجرؤهم على التحريم والتحليل بلا مستند من الكتاب إنما نشأ لهم من الجهل بكتاب الله وسنة رسوله ، وآثار السلف الصالح . 
وآية يونس المتقدمة صريحة فيما ذكرنا صراحة تغني عن كل ما سواها ; لأنه تعالى لما قال : فجعلتم منه حراما وحلالا    [ 10 \ 59 ] أتبع ذلك بقوله : قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون    . 
 [ ص: 351 ] ولم يجعل واسطة بين إذنه في ذلك وبين الافتراء عليه ، فمن كان عنده إذن من الله بتحريم هذا أو تحليلا فليعتمد على إذن الله في ذلك . 
ومن لم يكن عنده إذن من الله في ذلك فليحذر من الافتراء على الله ، إذ لا واسطة بين الأمرين . 
ومعلوم أن العبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سببها . 
فالذين يقولون من الجهلة المقلدين : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا حكم الله ، ظنا منهم أن أقوال الإمام الذي قلدوه تقوم مقام الكتاب والسنة وتغني عنهما ، وأن ترك الكتاب والسنة والاكتفاء بأقوال من قلدوه أسلم لدينه أعمتهم ظلمات الجهل المتراكمة عن الحقائق حتى صاروا يقولون هذا . 
فهم كما ترى ، مع أن الإمام الذي قلدوه ، ما كان يتجرأ على مثل الذي تجرءوا عليه ; لأن علمه يمنعه من ذلك . 
والله - جل وعلا - يقول : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب    [ 39 \ 9 ] . 
				
						
						
