وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن يفتنكم الذين كفروا  معناه : ينالونكم بسوء . فروع تتعلق بهذه الآية الكريمة على القول بأنها في قصر الرباعية كما يفهم من حديث  يعلى بن أمية  عن  عمر بن الخطاب  رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم  وأحمد  وأصحاب السنن كما تقدم . 
الفرع الأول : أجمع العلماء على مشروعية قصر الرباعية في السفر  خلافا لمن شذ وقال : لا قصر إلا في حج أو عمرة ، ومن قال : لا قصر إلا في خوف ، ومن قال : لا قصر إلا في سفر طاعة خاصة ، فإنها أقوال لا معول عليها عند أهل العلم ، واختلف   [ ص: 266 ] العلماء في الإتمام في السفر ، هل يجوز أو لا ؟ فذهب بعض العلماء إلى أن القصر في السفر واجب . 
وممن قال بهذا القول : أبو حنيفة  رحمه الله وهو قول علي  ، وعمر  ،  وابن عمر  ، ويروى عن  ابن عباس  وجابر  ، وبه قال  الثوري  وعزاه الخطابي  في المعالم لأكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار ، ونسبه إلى علي  وعمر   وابن عمر   وابن عباس   وعمر بن عبد العزيز  وقتادة  والحسن  قال : وقال  حماد بن أبي سليمان    : يعيد من صلى في السفر أربعا . اهـ . منه بواسطة نقل الشوكاني  رحمه الله وحجة هذا القول الذي هو وجوب القصر ما قدمنا من الأحاديث عن عائشة  ،  وابن عباس  ، وعمر  رضي الله عنهم بأن الصلاة فرضت ركعتين ، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ، ودليل هؤلاء واضح ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى جواز الإتمام والقصر ، كما يجوز الصوم والإفطار ، إلا أنهم اختلفوا هل القصر أو الإتمام أفضل ؟ وبهذا قال  عثمان بن عفان  ،  وسعد بن أبي وقاص  ، وعائشة  رضي الله عنهم . 
قال النووي  في " شرح المهذب " وحكاه العبدري  عن هؤلاء يعني من ذكرنا وعن  ابن مسعود   وابن عمر   وابن عباس   والحسن البصري  ومالك  وأحمد   وأبي ثور  وداود  ، وهو مذهب أكثر العلماء ، ورواه البيهقي  عن  سلمان الفارسي  في اثني عشر من الصحابة . وعن أنس   والمسور بن مخرمة   وعبد الرحمن بن الأسود   وابن المسيب  وأبي قلابة  ، واحتج أهل هذا القول بأمور : 
الأول : قوله تعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة  الآية [ 4 \ 101 ] ; لأن التعبير برفع الجناح دليل لعدم اللزوم . 
الأمر الثاني : هو ما قدمنا في حديث  يعلى بن أمية  عن  عمر بن الخطاب  من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في القصر في السفر : " صدقة تصدق الله بها عليكم   " . الحديث ، فكونه صدقة وتخفيفا يدل على عدم اللزوم . 
الأمر الثالث : هو ما رواه  النسائي  والبيهقي   والدارقطني  عن عائشة  رضي الله عنها أنها اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر هو - صلى الله عليه وسلم - وقصر الصلاة وصامت هي وأتمت الصلاة ، فأخبرته بذلك ، فقال لها : " أحسنت "   . 
قال النووي  في " شرح المهذب " : هذا الحديث رواه  النسائي   والدارقطني  والبيهقي   [ ص: 267 ] بإسناد حسن أو صحيح ، قال : وقال البيهقي  في " السنن الكبرى " : قال  الدارقطني  إسناده حسن ، وقال في " معرفة السنن والآثار " : هو إسناد صحيح . 
قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر أن ما جاء في هذا الحديث من أن عمرة عائشة  المذكورة في رمضان لا يصح ; لأن المحفوظ الثابت بالروايات الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رمضان قط ; لأنه لم يعتمر إلا أربع عمر    : 
الأولى : عمرة الحديبية  التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام  ، عام ست . 
الثانية : عمرة القضاء التي وقع عليها عقد الصلح في الحديبية  ، وهي عام سبع . 
الثالثة : عمرة الجعرانة  بعد فتح مكة  ، عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في شهر ذي القعدة بالإجماع وبالروايات الصحيحة . 
الرابعة : عمرته مع حجه في حجة الوداع ، ورواية  النسائي  ليس فيها أن العمرة المذكورة في رمضان ولفظه : أخبرني أحمد بن يحيى الصوفي  ، قال : حدثنا أبو نعيم  ، قال : حدثنا العلاء بن زهير الأزدي  ، قال : حدثنا  عبد الرحمن بن الأسود  عن عائشة    : " أنها اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة  إلى مكة  حتى إذا قدمت مكة  قالت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت . قال : " أحسنت يا عائشة    " ، وما عاب علي   " . اهـ . 
الأمر الرابع : ما روي عن عائشة    - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم   . 
قال النووي  في " شرح المهذب " : رواه  الدارقطني  ، والبيهقي  وغيرهما . 
قال البيهقي    : قال  الدارقطني  إسناده صحيح وضبطه ابن حجر  في " التلخيص " بلفظ يقصر بالياء ، وفاعله ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتتم بتائين وفاعله ضمير يعود إلى عائشة  فيكون بمعنى الحديث الأول ، ولكن جاء في بعض روايات الحديث التصريح بإسناد الإتمام المذكور للنبي - صلى الله عليه وسلم - . 
قال البيهقي    : أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه  ، أنبأنا  علي بن عمر الحافظ  ، حدثنا المحاملي  ، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب  ، حدثنا أبو عاصم  ، حدثنا عمر بن سعيد  وعن   [ ص: 268 ]  عطاء بن أبي رباح  ، عن عائشة  رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في الصلاة ويتم ويفطر ويصوم   . قال علي    : هذا إسناد صحيح . اهـ . 
قال البيهقي    : وله شاهد من حديث دلهم بن صالح  ،  والمغيرة بن زياد  ، وطلحة بن عمرو  وكلهم ضعيف . 
الخامس : إجماع العلماء على أن المسافر إذا اقتدى بمقيم  لزمه الإتمام ، ولو كان القصر واجبا حتما لما جاز صلاة أربع خلف الإمام . 
وأجاب أهل هذا القول عن حديث عمر  وعائشة   وابن عباس  بأن المراد بكون صلاة السفر ركعتين أي : لمن أراد ذلك ، وعن قول عمر  في الحديث : تمام غير قصر بأن معناه أنها تامة في الأجر قاله النووي  ، ولا يخلو من تعسف وأجاب أهل القول الأول عن حجج هؤلاء قالوا : إن قوله تعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة    [ 4 \ 101 ] في صلاة الخوف كما قدمنا ، فلا دليل فيه لقصر الرباعية ، قالوا : ولو سلمنا أنه في قصر الرباعية فالتعبير بلفظ ولا جناح عليكم    [ 4 \ 102 ] ، لا ينافي الوجوب كما اعترفتم بنظيره في قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما    [ 2 \ 158 ] لأن السعي فرض عند الجمهور . وعن قوله في الحديث : " صدقة تصدق الله بها عليكم   " بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقبولها في قوله : " فاقبلوا صدقته   " ، والأمر يقتضي الوجوب فليس لنا عدم قبولها مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فاقبلوها " ، وأجابوا عن الثالث والرابع بأن حديثي عائشة  المذكورين لا يصح واحد منها واستدلوا على عدم صحة ذلك بما ثبت في الصحيح عن عروة  أنها تأولت في إتمامها ما تأول عثمان  ، فلو كان عندها في ذلك رواية من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل عنها عروة  أنها تأولت . 
وقال ابن القيم  في " زاد المعاد " ما نصه : وسمعت ابن تيمية  يقول : هذا الحديث كذب على عائشة  ، ولم تكن عائشة  لتصلي بخلاف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب ، كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . 
وقال  الزهري   لهشام بن عروة  لما حدثه عن أبيه عنها بذلك ، فما شأنها كانت تتم   [ ص: 269 ] الصلاة فقال : تأولت كما تأول عثمان  فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حسن فعلها وأقرها عليه ، فما للتأويل حينئذ وجه ، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير ، وقد أخبر  ابن عمر  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر  ولا عمر  ، أفيظن بعائشة  أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون . وأما بعد موته - صلى الله عليه وسلم - فإنها أتمت كما أتم عثمان  ، وكلاهما تأول تأويلا . والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له ، والله أعلم . اهـ . محل الغرض منه بلفظه . 
قال مقيده - عفا الله عنه - : أما استبعاد مخالفة عائشة  رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته مع الاعتراف بمخالفتها له - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته ، فإنه يوهم أن مخالفته بعد وفاته سائغة ، ولا شك أن المنع من مخالفته في حياته باق بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم    - فلا يحل لأحد البتة مخالفة ما جاء به من الهدى إلى يوم القيامة : فعلا كان أو قولا أو تقريرا ، ولا يظهر كل الظهور أن عائشة  تخالف هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - باجتهاد ورواية من روى أنها تأولت تقتضي نفي روايتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا في ذلك ، والحديث المذكور فيه إثبات أنها روت عنه ذلك ، والمثبت مقدم على النافي  ، فبهذا يعتضد الحديث الذي صححه بعضهم وحسنه بعضهم كما تقدم . 
والتحقيق أن سند  النسائي  المتقدم الذي روى به هذا الحديث صحيح ، وإعلال  ابن حبان  له بأن فيه العلاء بن زهير الأزدي  ، وقال فيه : إنه يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات فبطل الاحتجاج به ، مردود بأن العلاء  المذكور ثقة كما قاله ابن حجر  في " التقريب " وغيره وإعلال بعضهم له بأن  عبد الرحمن بن الأسود  لم يدرك عائشة  مردود بأنه أدركها . 
قال  الدارقطني  وعبد الرحمن  أدرك عائشة  فدخل عليها وهو مراهق وذكر  الطحاوي  عن عبد الرحمن  أنه دخل على عائشة  بالاستئذان بعد احتلامه ، وذكر صاحب " الكمال " أنه سمع منها ، وذكر  البخاري  في " تاريخه "  وابن أبي شيبة  ما يشهد لذلك ، قاله ابن حجر  وإعلال الحديث المذكور بأنه مضطرب ; لأن بعض الرواة يقول عن  عبد الرحمن بن الأسود  عن أبيه عن عائشة  ، وبعضهم يقول عن عبد الرحمن  عن عائشة  مردود أيضا ، بأن رواية من قال عن أبيه خطأ والصواب عن  عبد الرحمن بن الأسود  عن عائشة    . 
قال البيهقي  بعد أن ساق أسانيد الروايتين : قال أبو بكر النيسابوري    : هكذا قال   [ ص: 270 ] أبو نعيم  عن عبد الرحمن  عن عائشة  ، ومن قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ . اهـ . 
فالظاهر ثبوت هذا الحديث وهو يقوي حجة من لم يمنع إتمام الرباعية في السفر وهم أكثر العلماء ، وذهب الإمام  مالك بن أنس  إلى أن قصر الرباعية في السفر  سنة ، وأن من أتم أعاد في الوقت ; لأن الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على القصر في أسفاره وكذلك أبو بكر  وعمر  وعثمان  في غير أيام منى  ولم يمنع مالك  الإتمام ; للأدلة التي ذكرنا والعلم عند الله تعالى . 
				
						
						
