قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم     . 
أجمع المفسرون أنها في بني النضير ،  إلا قولا للحسن  أنها في بني قريظة ،  ورد هذا القول بأن بني قريظة  لم يخرجوا ، ولم يجلوا ولكن قتلوا . 
وقد سميت هذه السورة بسورة " بني النضير    " ، حكاه القرطبي  عن  ابن عباس    . 
قال  سعيد بن جبير    : قلت  لابن عباس    : سورة " الحشر " قال : قل سورة " النضير " ، وهم رهط من اليهود  من ذرية هارون    - عليه السلام - نزلوا المدينة  في فتن بني إسرائيل  انتظارا لمحمد  صلى الله عليه وسلم   . 
واتفق المفسرون على أن بني النضير  كانوا قد صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر  قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة ، لا ترد له راية ، فلما هزم المسلمون يوم أحد  ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف  في أربعين راكبا إلى مكة ،  فحالفوا عليه قريشا  عند الكعبة ،  فأخبر جبريل  الرسول - صلى الله عليه وسلم بذلك - فأمر   [ ص: 13 ] بقتل كعب ،  فقتله محمد بن مسلمة  غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين اللذين قتلهما  عمرو بن أمية الضمري  منصرفه من بئر معونة ،  فهموا بطرح الحجر عليه - صلى الله عليه وسلم - فعصمه الله تعالى . 
ولما قتل كعب  أمر - صلى الله عليه وسلم - بالمسيرة إليهم ، وطالبهم بالخروج من المدينة ،  فاستمهلوه عشرة أيام ؛ ليتجهزوا للخروج ، ولكن أرسل إليهم عبد الله بن أبي  سرا : لا تخرجوا من الحصن ، ووعدهم بنصرهم بألفي مقاتل من قومه ، ومساعدة بني قريظة  وحلفائهم من غطفان ،  أو الخروج معهم ، فدربوا أنفسهم ، وامتنعوا بالتحصينات الداخلية ، فحاصرهم - صلى الله عليه وسلم - إحدى وعشرين ليلة    . 
وقيل : أجمعوا على الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم    - فقالوا له : اخرج في ثلاثين من أصحابك ، ويخرج إليك ثلاثون منا ؛ ليسمعوا منك ، فإن صدقوا آمنا كلنا ففعل ، فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون ؟ اخرج في ثلاثة ، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعلوا فاشتملوا على الخناجر ، وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها ، وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا ، فأسرع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فساره بخبرهم قبل أن يصل - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب ، وآيسوا من نصر المنافقين الذي وعدهم به ابن أبي ، فطلبوا الصلح فأبى عليهم - صلى الله عليه وسلم - إلا الجلاء ، على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع إلا الحلقة ، فكانوا يحملون كل ما استطاعوا ولو أبواب المنازل ، يخربون بيوتهم ويحملون ما استطاعوا معهم . 
وقد أوردنا مجمل هذه القصة في سبب نزول هذه السورة ؛ لأن عليها تدور معاني هذه السورة كلها ، وكما قال الإمام أبو العباس ابن تيمية    - رحمه الله - في رسالة أصول التفسير : إن معرفة السبب تعين على معرفة التفسير ، وليعلم المسلمون مدى ما جبل عليه اليهود  من غدر ،  وما سلكوا من أساليب المراوغة فما أشبه الليلة بالبارحة . 
والذي من منهج الشيخ - رحمه الله - في الأضواء قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم  ، حيث أسند إخراجهم إلى الله تعالى مع وجود حصار المسلمين إياهم . 
وقد تقدم للشيخ - رحمه الله - نظيره عند قوله تعالى : ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا   [ ص: 14 ]   [ 33 \ 25 ] ، قال - رحمه الله تعالى - عندها : ذكر جل وعلا أنه قومه الذين كفروا وكذبوا  الآية ، ولم يبين السبب الذي ردهم به ، ولكنه جل وعلا بين ذلك بقوله : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها    [ 33 \ 9 ] ا هـ . 
وهنا أيضا في هذه الآية أسند إخراجهم إليه تعالى مع حصار المسلمين إياهم ، وقد بين تعالى السبب الحقيقي لإخراجهم  في قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب  ، وهذا من أهم أسباب إخراجهم ؛ لأنهم في موقف القوة وراء الحصون ، لم يتوقع المؤمنون خروجهم ، وظنوا هم أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقد كان هذا الإخراج من الله إياهم بوعد سابق من الله لرسوله في قوله تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم    [ 2 \ 137 ] . 
وبهذا الإخراج تحقق كفاية الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - منهم ، فقد كفاه إياهم بإخراجهم من ديارهم ، فكان إخراجهم حقا من الله تعالى ، وبوعد مسبق من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم . 
وقد أكد هذا بقوله تعالى مخاطبا للمسلمين في خصوصهم : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير    [ 59 \ 6 ] وتسليط الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو بما بين صلى الله عليه وسلم في قوله : " نصرت بالرعب مسيرة شهر   " وهو ما يتمشى مع قوله تعالى : وقذف في قلوبهم الرعب    [ 33 \ 26 ] . 
وجملة هذا السياق هنا يتفق مع السياق في سورة الأحزاب عن بني قريظة  سواء بسواء ، وذلك في قوله تعالى : وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا  وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم    [ 33 \ 26 - 27 ] ، وعليه ظهرت حقيقة إسناد إخراجهم لله تعالى ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب  كما أنه هو تعالى الذي رد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، بما أرسل عليهم من الرياح ، والجنود ، وهو الذي كفى المؤمنين القتال ، وهو تعالى الذي أنزل بني قريظة  من صياصيهم ، وورث المؤمنين ديارهم وأموالهم ، وكان الله على كل شيء قديرا . 
ورشح لهذا كله التذييل في آخر الآية ، يطلب الاعتبار والاتعاظ بما فعل الله بهم :   [ ص: 15 ] يا أولي الأبصار    [ 59 \ 2 ] ، أي : بإخراج الذين كفروا من حصونهم ، وديارهم ومواطن قوتهم ، ما ظننتم أن يخرجوا ؛ لضعف اقتداركم ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم  لقوتها ومنعتها ، ولكن أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فلم يستطيعوا البقاء ، وكانت حقيقة إخراجهم من ديارهم هي من الله تعالى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					